الرجوع

الاستبداد يجهض تَشكل مفهوم الفرد

الثلاثاء

م ٢٠٢٠/٠٩/٢٢ |

هـ ١٤٤٢/٠٢/٠٥

الاستبداد بُنية نفسية واجتماعية وثقافية ودينية واقتصادية وسياسية عميقة، تَظهر آثارها النفسية والسلوكية في كل إنسان في المجتمع. الاستبداد كالسرطان الذي يتفشى في الجسم البشري. فلو انتشرت خليَّةٌ منه، لَفتكَت بكل ما تصل إليه. سُلطة الاستبداد نسيجٌ اجتماعي معقد، تعمل كل مؤسسات الدولة على توليدها، ويوظِّف المستبدُّ بخبث أفراد المجتمع لحياكة سلطته، كلٌّ حسب مهنته ومهارته وطاقته.

المجتمع في الاستبداد استبداديٌّ، الثقافةُ في الاستبداد استبدادية، الاقتصاد في الاستبداد استبداديّ، الأخلاق في الاستبداد استبدادية، السياسة في الاستبداد استبدادية، الحزب في الاستبداد استبداديّ، الجماعة في الاستبداد استبدادية، العائلة في الاستبداد استبدادية. التديّنُ في الاستبداد استبداديّ، إذ ترتسم صورة الله لدى الناس بصورة تشتقّها المخيِّلةُ من صورة المستبِد، فترسمها بألوان مخيفة تثير الاكتئاب وتُهدد بالأهوال، تُحاكي تَجبُّر المستبد وطغيانَه في الأرض.

تَشيع في فضاء الاستبداد حياةٌ دينية مسجونة في معتقدات ومفاهيم مغلقة، تتغلغل في الوعي واللاوعي الفردي والجمعي، وثقافةٌ دينية لا تعرف معاني الحريات والحقوق. الإنسان الذي يعيش في نظام مستبدّ يعيش قلِقًا خائفًا مذعورًا، وبدلًا من أن يكُون الدينُ في حياته مُلهِمًا لطمأنينة القلب وسكينة الروح، ومصدرًا لإيقاظ الضمير الأخلاقي، يتحول الدين إلى مصدر للتخويف والقهر والإذعان والتركيع.

الأخلاق في الاستبداد استبدادية، إنها أخلاق يتوارى فيها الضمير الأخلاقي، بعد أن يَخضع سلوك الإنسان لإكراه يَفرض عليه مواقف وسلوكًا مضادًّا يحجب ما يخفيه من قناعات. يَشيع في الاستبداد النفاق السلوكي، الظاهر في شخصية الإنسان يكذِّب الباطن، والباطنُ في الشخصية يكذِّب الظاهر. الاستبداد من أخبث خطايا السلطة، لأنه يُفسد كل شيء يستحوذ عليه، وهو بطبيعته لا يُبقي شيئًا في حياة الفرد والمجتمع من دون أن يستحوذ عليه.

السياسة في الاستبداد إلغاءٌ للسياسة. السياسة فِعل مجتمعيّ، والاستبداد يَختزل المجتمع كله بفرد واحد، يحتكر كل شيء بيده. يحُوك المستبدُّ نسيجًا متشابكًا متشعبًا وعِرًا مركبًا معقدًا للسلطة، يبدأ فيها كل شيء منه وينتهي كل شيء فيه، بل يختزل المستبدُّ المجتمع كله بشخصه، بنحوٍ يُفضي فيه نحرُ المستبدِّ إلى نحرِ المجتمع.

يتحول الماضي في الاستبداد إلى ماضي المستبد، الحاضرُ حاضرُ المستبد، المستقبل مستقبل المستبد، الأيامُ أيام المستبد، الفرح فرحُ المستبد، الحزن حزنُ المستبد، الثقافة ثقافة المستبد، الآداب آداب المستبد، الفنون فنون المستبد. في الاستبداد يغدو الزمن تكراريًّا، الحاضرُ فيه يستأنف أسوأَ ما في الماضي، المستقبلُ فيه يستأنف أسوأ ما في الحاضر. يبدأ كل شيء من حيث انتهى، ينتهي كل شيء من حيث بدأ، البداياتُ تكرّر النهايات، النهاياتُ تكرّر البدايات. كل شيء يتكرّر فتتوقف حركة التطور، لأن قوانين التطور ينفيها الزمان التكراري. التكرار يبدد الشغف بالحياة، وتندثر معه قدرة الكائن البشري على الخلق والإبداع. في الاستبداد يكون كل شيء كفيلم يكرّر نفسَه آلاف المرات، يتعطل الزمان الشخصي، ويمسي الإنسان كائنًا محنطًا.

يتكلم المستبد كثيرًا بالسياسة والدولة والقانون والوطنية، ويشغل الناسَ بالشعارات الثورية، لكنه عمليًّا يعبث بالحياة السياسية فيهشّمها، ويبدد مواردَ الوطن بحروب عبثية، ويفكك الأسس المركزية للدولة.

السياسة في الاستبداد مهنة من لا مهنة له. أما العلماء والخبراء المختصون في الدولة، والنظم السياسية، والإدارة، والاقتصاد، والنظام المالي، ومختلفِ العلوم والمعارف الحديثة، فلا حضور لهم في بناء الدولة وإدارتها، وإن حضروا لا يمتلكون سلطة اتخاذ قرار، ويظلّ دورُهم هامشيًّا، يستخدمهم المستبد “ديكورًا” لسلطته حيثما يشاء.

المستبد يستثمر التراث والهويات الإثنية والمعتقدات الدينية وكلَّ ما يُرسّخ تَسلُّطه بدهاء، فيثير فزعَ الطوائف ويستعدي بعضَها ضدَّ بعض في الوطن الواحد، بإذكاء الضغائن والأحقاد الراقدة في الذاكرة العتيقة، وتفجيرها بصخبٍ دعائي يثير غرائز الثأر والانتقام، ويزجّ الطوائفَ والإثنيات في نزاعات لا تنتهي، يجيّش فيها الكُلَّ في مواجهة الكل.

قوة الدولة في عالَم اليوم تعكسها قدرتها على: استيعابِ المتخصصين في مختلف العلوم والمعارف الحديثة، واستثمارِ خبراتهم في التنمية الشاملة. كما تعكسها قدرتُها على: تدبير الاختلاف، وإدارة التعدد، وحماية التنوع، وحسم النزاعات بشكل سلمي.

الاستبداد بُنيةٌ تحتية صلبة متكلّسة، نراها ماثلة في العائلة، والمدرسة، والمجتمع، والدين، والثقافة، والاقتصاد، والإدارة، ومختلف مؤسسات الدولة. الاستبداد عدوُّ الفردية، لا يَعرف الاستبدادُ معنًى للحقِّ في الاختلاف، ولا يعرف معنًى للحق في الخطأ، ولا يعرف معنًى للحق في الاعتراف بالخطأ، ولا يعرف معنًى للاعتذار عن الخطأ، ولا يعرف معنًى للغفران.

لا تنشد التربيةُ والتعليم في الاستبداد تعليمَ التفكير، والحقَّ في الاختلاف، والحق في الخطأ، والحق في الاعتذار عن الخطأ، بل تنشد تكريس الطاعة والإذعان والرضوخ والعبودية الطوعية، عبْر تنميط الشخصية، وإنتاج نسخ بشرية متماثلة، تفتقد ملامحَها الخاصة، فيتوالد الاستبداد بوصفه نتيجةً طبيعية لكل ذلك.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive