الرجوع

الانحدار إلى المجتمع الذكوري

الخميس

م ٢٠١٧/٠٧/٢٠ |

هـ ١٤٣٨/١٠/٢٦

لم يكن أيمن ذو السبع سنوات محظوظًا هذه الليلة، فقد عاد إلى البيت ليجد والده حاملاً العصا، معاقبًا إياه على الخطأ الذي اقترفه أمام رجال الحيّ. وبحسب والده فقد ارتكب أيمن فضيحة تستحق العقوبة والتوبيخ، ولا ينبغي السكوت عنها مطلقًا. كان ذنب أيمن أنه ذكر اسم أُمِّه حين سئل عنه من قبل أحد أصدقاء والده، واسم الأم عيب في عُرْف مجتمع أيمن ولا ينبغي ذكره في الأماكن العامة. بكى أيمن وهو يشهد عقاب الشرف الأول من قبل والده، وحين رفع عينيه وجد أمه تنصحه بألا يكرر الخطأ مرة أخرى.

الصورة السابقة ليست لَقْطة سطحية لموقف عابر، بل هي حالة تتكرر دائما بأشكال متعددة، وتعبِّر عما وصلت إليه ذهنية بعض المجتمعات في التعامل مع المرأة، فهي تتوجَّس خيفة من تاء التأنيث، وتجد في ذكر ذلك خدشًا للشرف والرجولة. كما تقوم بعض الأُسَر بترويض أطفالها على عدم نطق الأسماء المؤنثة في سبيل الحفاظ على هيبة الذكور، ويؤخذ أيضًا على الطفل ميثاقٌ أن يجعل اسم أمه أو أخته سرًّا غير قابل للنطق أو التحدُّث به.

وهنا تساؤلان يدعُوَان إلى الحيرة: كيف تحولت المجتمعات من شكلها المتوازن ذي الأدوار المنتظمة بين الذكور والإناث، إلى مجتمعات تهتم بشوارب الرجال كرمز شرف في حين ترى ضفائر النساء نقيضًا له؟! وكيف انحدرت النظرة إلى المرأة حتى وصلت إلى هذا المنحى، الذي يجعل من الإنسان نوعين: أحدهما تابِع مَهْما بلغت كفاءته، والآخر متبوع مهما وصل إليه جهْلُه؟! لا شك أن الأسماء ليست هي لُبّ القضية، فالظاهرة أعمق بكثير من حكاية اسم أنثى، لكن هذا الخيط البسيط للظاهرة يقودنا إلى فهم جبل الجليد الذي تَسنُد إليه الثقافةُ الذكورية لدى بعض المجتمعات، والتي ما زالت ترى في المرأة كائنًا لا بد أن يحتلَّ المرتبة لا شيء، أو في أحسن الأحوال المرتبة الثانية.

دعُونا نفتش في زوايا التاريخ؛ علَّنا نجد إجابة عن تساؤلاتنا. فحين نعود للإنسان في بداياته، نجد أسماء ما زال صداها يتردد حتى اليوم. فمِن بلقيس ملكة سبأ منقذة القوم، إلى كليوباترا مصر أشهر ملكات بلاد النيل، مرورًا بالملكة زنوبيا حاكمة تدمر، إلى ملكة الدولة الآشورية سمورامات، وغيرهن من النساء اللواتي ترَكْن أثرًا، نجد أن البدايات التاريخية لم تحتوِ على الإقصاء، أو على تلك الذكورية المفرطة التي نشهدها اليوم. فإلى حد بعيد كانت المجتمعات تتعامل بصورة طبيعية مع الجميع. فالإنسان نفس واحدة دون تمييز، كما أن أدوار الحياة كانت تُؤدَّى بشكل عادل، لا يَمنح أحدٌ أحدًا الحقَّ في التسلط القائم على النوع الاجتماعي.

لكن مع مرور الوقت، تدحرجت الثقافة الذكورية ككرة الثلج وظلت تكبر يوما بعد يوم، وقد أسهم في هذا الانحدار طبيعة الدور الذي كان يلعبه أغلب الذكور، في القيام بواجبات الحماية للمجتمعات وتولِّي مهام الدفاع والقتال؛ وهذا ما جعل القوة بأيديهم، وجعل أدوار الأنثى تنحصر في أمور أخرى. ولمَّا كان هذا الأمر باعثًا على التسلط، فقد انعكس ذلك سلبًا على طبيعة العلاقة بين الذكور والإناث، فرأت مثل هذه الثقافة تفاضلًا في توزيع الأدوار لمصلحة الذكور، وظل المجتمع يشدد الخناق مع مرور الوقت، حتى وصل الأمر إلى وأد المرأة وهي حية في بعض المجتمعات العربية التي كانت تسكن الجزيرة، تحت تبريرات الحفاظ على الشرف، فيما لو جرى أَسْرها في أرض المعركة، فهي كائن غير قادر على الدفاع عن نفسه دون وجود رجل، حسب المفهوم السائد آنذاك.

ولكي يُضاف إلى هذه الثقافة الذكورية نوعٌ من القداسة، جرى تفصيل الكثير من النصوص الدينية لتتلاءم وهذه الثقافة. فما زلنا نسمع الكثير من الأقوال التي تتحدث عن ناقصات العقل والدين، والمرأة القادمة من الضلع الأعوج، والوعيد بعدم الفلاح إنْ تصدَّرَت أنثى الشأن العام. لقد صيَّرَت هذه الثقافة الكثير من أفراد المجتمع (ذكورًا وإناثًا) أَسْرى لهذه النصوص، وجعلتهم يرفضون حتى مجرد الالتفات إلى النصوص الدينية التي تقف بحزم ضد تلك الادعاءات. وعادة ما يجري وَسْم أي صوت يدعو إلى إعادة فحص مثل هذه الموروثات بأنه صوت يريد أن يهدم القيم، فقد صارت هذه الثقافة تحتلُّ صلب القيم، مدعومة دينيًّا بحشد من الآراء التاريخية.

دعونا نَعُد إلى ما يقف خلف ظاهرة إخفاء الأسماء. على سبيل المثال، أشارت بيانات منظمة اليونسكو في العام المنصرم إلى أن نسبة الأمِّيّة بين النساء في المجتمعات العربية تصل إلى 50%، حصلت معظم دول الحضارات المذكورة آنفًا (مصر، واليمن، والسودان، والعراق) على النسب العليا بين الدول العربية. هذا الأمر يشكل كارثة بحق الإنسان (ذكرًا كان أم أنثى). وإن كنا نستنكر وأد البنات قديمًا، فمِن الأَولى أن نستنكر أيضًا وأد نصف النساء حديثًا في قبور الجهل، ومتاهات الأمِّيّة.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive