الرجوع

الانقسام ليس سمة للإسلام

الإثنين

م ٢٠١٧/٠٧/١٠ |

هـ ١٤٣٨/١٠/١٦

من أبرز المؤشرات الدالة على تراجع القيم الروحية والحضارية في المجتمعات، تنامي الانقسامات والنزاعات الداخلية، وسرعة تحويل الاختلافات إلى نزاعات ذات صبغة دينية ضاربة في عمق التاريخ.

يدرك العقلاء بأن استمرار النزاعات والانقسامات، سيؤدي وفق السنن والقوانين الاجتماعية إلى إضعاف المجتمعات وانحلالها. فالنزاعات تنتهي إلى تنامي الظلم، والظلم كما يقول ابن خلدون: "مؤذن بخراب العمران". ولا يعني ذلك أن خراب المجتمعات سيأتي بالضرورة من الخارج، بل غالبا ما يكون "خرابا ذاتيا" يأتي من الداخل مدفوعا برغبة محمومة في إشاعة الانقسام وتمجيده.

لم يكن الصحابة أنفسهم بمعزل عن أسباب النزاع والانقسام، فالقرآن يحدثنا عن أول نزاع وقع بين المسلمين في حياة الرسول، وكان سببه الاختلاف في تقاسم الغنائم بعد معركة بدر كما جاء في مطلع سورة الأنفال، ثم التأكيد على نهي الصحابة عن التنازع فيما بينهم، واعتبار ذلك النهي من طاعة الله ورسوله: {وأطيعوا الله ورسولَهُ ولَا تَنازَعوا فتَفشَلوا وتذهب رِيحُكم واصبِروا إِنَّ اللَّه مع الصابِرين} [الأنفال: 46].

من أهم الآيات التي تحدثت عن النزاع والاقتتال بين المؤمنين آية الحجرات والتي تقول: {وإِن طائِفَتان مِن المؤمنين اقتَتَلوا فَأَصْلِحوا بينهما فَإِنْ بَغَتْ إِحداهُما على الأُخرى فقاتِلوا التي تَبْغي حتى تَفيءَ إلى أمر اللَّه فإِنْ فاءت فأَصلِحوا بينهما بالعدل وأَقْسِطوا إِنَّ اللَّه يُحبُّ المُقسِطين} [الحجرات: 9].

أكدت هذه الآية ثلاث قضايا أساسية، الأولى: واقعية تعاليم القرآن وتوقُّعها لإمكانية الانقسام والنزاع بين أتباع الدين الواحد. والثانية: أنّ الاقتتال هو نتيجة للبغي والعدوان وليس نتيجة لاختلاف المعتقدات أو الألوان والاعراق. والثالثة: وجوب الإصلاح بين المقتتلين على أساس العدل والقسط، وليس على أساس الاصطفاف الطائفي، والمكاسب المادية، والانحيازات السياسية.

الوحدة هي مقصد كُلّي لتعاليم الإسلام، وإقامتها على الأرض مؤشر واضح يدل على تحقيق المضامين الجوهرية للإسلام. ولذلك نجد القرآن يخاطب أتباع الأنبياء جميعا بقوله: {إِنَّ هذه أُمَّتُكم أُمَّةً واحدةً وأَنا ربُّكم فاعْبُدونِ} [الأنبياء: 92]. وفي تقديم الآية موضوع الوحدة بين المؤمنين، وتأكيدِها له، قبل الحديث عن موضوع الربوبية والأمر بعبادته تعالى، دليل واضح على القيمة الجوهرية للوحدة في البناء العَقَدِيّ للإسلام.

وفي الحديث النبوي نجد صدى ذلك المقصد في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "اقْرَؤُوا القرآن ما ائْتَلَفَتْ قلوبُكم، فإذا اختلفتم فَقُومُوا عنه" (البخاري). فمصلحة الوحدة والتآلف هي أعظم من عبادة تلاوة القرآن. كما ينبِّه الحديث إلى أن الفهم الخاطئ للدين يؤدي إلى التنازع والانقسام.

كما نجد في المسيحية تأكيدا عميقا لقيمة الوحدة، وعلاقتها العميقة بالإيمان، كما في قول المسيح عليه السلام عندما صلّى لأتباعه لأن يكونوا جسدا واحدا بقوله: "كي يكونوا واحدًا" (يوحنا 17 / 21).

يقدم القرآن أروع مظاهر التفكير التوحيدي من خلال قصة عبادة بني إسرائيل العجل الذهبي، التي قدم فيها هارون أنموذجًا للفقه "الهاروني" الذي يقدم مقصد الحفاظ على وحدة المجتمع، على مفسدة الانحراف والضلال العقدي. كما تعرّضت القصة إلى مشكلة "التدين الانفعالي"، الذي يُغَلّب الغضب والعاطفة، ولا يرى في المشكلة سوى مخالفتها لظاهر الشريعة. {قال يا هارُونُ ما منَعَكَ إذ رأيتَهُم ضَلُّوا*أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أمري*قال يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذ بِلِحْيَتي ولَا برأسي إِنِّي خَشِيتُ أَن تقول فرَّقْتَ بين بَني إسرائيل ولم تَرْقُبْ قولي} [طه: 92-94].

هناك علاقة وطيدة بين تنامي الانقسام والنزاع، وتفشِّي وباء التكفير بين أبناء الدين الواحد، كما هو الحال في إشاعة تكفير الطوائف الإسلامية الأخرى كالشيعة، والقاديانية، والدروز، والنصيرية، والمعتزلة، والأشاعرة...الخ؛ أو في تكفير المفكرين والعلماء أمثال ابن سينا، وابن عربي، والسهروردي، والحلاج، وغيرهم.

يجب علينا أن نعترف بأن الانقسامات والنزاعات بين المسلمين تقدم أسوأ صورة للإسلام، سواء لغير المسلمين أم للمسلمين أنفسهم؛ وذلك لأنهم سيظنون أن الإسلام هو مصدر تلك الانقسامات والنزاعات، ولن تغني كل تلك المعاني النظرية عن أمَّة لم تتمثل عقيدة التوحيد في حياتها على الأرض.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive