الرجوع

التجلي اللامحدود للحضور الإلهي

الثلاثاء

م ٢٠٢٠/٠٣/٢٤ |

هـ ١٤٤١/٠٧/٣٠

الوجود الإلهي قارٌّ في النفس، ومِن النادر أن يصِلَ الإنسان إلى حدِّ إنكار الله. وجُلُّ مَن نُسب إليهم إنكاره -وأقصد هنا الفلاسفة والمفكرين-، نجد –بعد التحقيق– أنهم برأيي أنكروا صوَرًا من الوصف البشري لله، والذي جرَى تَبنِّيه مُعتقَدًا في بعض أديان الشَّرق، كما في اللاهوت المسيحي، والكلام الإسلاميّ ، والتعدُّد "الوَثَنيّ".

هنا، لا أتكلَّمُ عن الوجود الإلهي ذاتِه؛ وإنما عن الحضور الإلهي في النفس البشرية، وأقصد به ذلك التصور الذي يرتسم في الذهن عن الله. فالله المُوجِد لهذا الوجود، ذاتُه غيْر مُدرَكة؛ وإنما تُدرَك آثار فعله في الوجود. والحضور الإلهي، يختلف فهمُه بحسب أطوار التطور العقلي للبشرية. فالله في بعض الأديان "الوثنية" متعدِّد. ولذلك، فهو لا يَظهر بكَونه إلهًا واحدًا؛ وإنَّما هو آلهة، وكُلُّ إلهٍ يختصُّ بصفة فعله في الوجود. وفي الأديان التوحيدية، يتجلى بحسب فهم النصوص من قِبَل علماء ذلك الدين. ولذلك، الحضور الإلهي في الذهن البشري، خاضِع للمعرفة التي يكتسبها الإنسان في زمانه ومكانه.

في المجتمعات القديمة التي تؤْمن بهيمنة الأرواح على الوجود، كان الإنسان يتصور فيها إلهَهُ بأنه مُنبثٌّ (منتشِر) في الموجودات مِن حوله، بكَونه روحًا تسْرِي فيها. وفي المجتمع الذي يؤْمن بالقوة والاستبداد، تَصوَّر الإنسانُ اللهَ فيه كائنًا قويًّا جبَّارًا، يَحمل سَوطًا يَسُوس به الوجود. وتَصوَّره أيضًا حالًّا في الملوك الجبابرة، حيث ألَّهَ الناسُ ملوكهم الأقوياء. وفي المجتمعات الزراعيَّة تصوَّرُوه آلهةً للخِصْب... وهكذا.

الحضور الإلهي في النفس، حُضور لامَحدود. والإنسان في كل ذلك رهين بعصره، سواءٌ من حيث طبيعة البيئة التي تُهَيمن عليه، ومقدار فهمه لهذه البيئة، وقدرته على التعامل معها، أو مِن حيث طبيعة الاجتماع الذي يعيش فيه من حيث السِّلم والصراع، أو من حيث المعارف التي يكتسبها، ومقدار ما تحويه من خرافات أو منطق، أو مِن تَداخُلهما معًا، أو من حيث النصوص الدينية ومناهج التعامل معها، سواءٌ بالأخذ بِظَواهر النصوص أو بتأويلها وتفسيرها.

ظاهرة التأويل في الأديان التوحيدية، تقُوم على فكرة التوفيق بين ظواهر النصوص الدينية، أيْ تفسير النصوص بحسب المعتقَد الأساس في الدين. ففي الإسلام، حيث إنَّ وحدانية الله هي الأساس، فإنَّ أيَّ نصٍّ ظاهِرُه مُخالِف لذلك، يَعمل علماءُ الكلام أو التوحيد على تأويله، بما لا يخالف المعتقَد الأصل، وهو وحدانية الله.

مع أنَّ هناك قدْرًا كبيرًا من الاتِّفاق حول مفهوم الألوهية لدى المسلمين، وهو أنَّ الله واحدٌ أحَدٌ لا شريك له، وليس كمِثله شيء، فإنَّ تَجلِّي الحضور الإلهي في الذهن المسلم تَعدَّد كثيرًا؛ إذْ لا تكاد تستطيع أن تُحصي له عددًا. فقد حصل جدال عميق بين فِرَق المسلمين، كما بين الفريق المُنَزِّه الذي يرفض وَصْفَ الله بأية صفة يشتبه أنَّ فيها تجسيدًا له، والفريقِ الذي يرفض هذا التنزيه المطلَق ويصِفُه بالتعطيل. ثمّ بين الفريقَين تأتي عشرات المقولات، التي تُحاول أنْ تُظهر ذلك الحضور الإلهي في النفس مَقروءًا للجميع.

يكلِّمنا الله في القرآن عن الوجود الإلهي ذاتِه، بكَونه حقيقةً لا تحتاج إلى إثبات مِن خارج النفس الإنسانية. لذلك، فهو يَحتكم إلى هذه النفس ذاتها في إثبات وجوده، فيقول الله: {ولئنْ سألتَهُم من خلق السَّموات والأرض وسخَّرَ الشمس والقمر ليقُولُنَّ اللَّه}، ويقول: {ولئنْ سألتهُمْ من نزَّل من السماء ماءً فأحيَا بهِ الأرضَ من بعدِ موتها ليقُولُنَّ اللَّه}. إلّا أنَّ القرآن يؤكِّد أنَّ الله الذي تُقرُّ به النفس البشرية، غيْر مُدرَك. فيقول: {لَا تدركهُ الأبصارُ وهُوَ يدركُ الأبصَارَ وهُوَ اللَّطيفُ الخبيرُ}. ومع كلِّ ذلك، فهو يحكي ذلك الحضورَ الإلهي بحسب تجلِّيهِ في النفس، من خلال ثقافتها الاجتماعية، كما في قوله: {يدُ اللَّهِ فوقَ أيديهِم}، وقوله: {ويبقَى وجهُ ربّكَ ذو الجلَالِ والإكرامِ}، وقوله: {الرَّحمنُ على العرشِ استوَى}. وهي كلُّها تجلِّيَات الحضور الإلهي في الذهن البشري.

لا يَعمد هذا المقال إلى تحقيق الفصل بين الوجود الإلهي والحضور الإلهي؛ وإنما يَطرح رؤية حول أنَّ هذا الحضور غير محدَّد، وسيظلُّ البشر يجدِّدون حضور الله في أذهانهم. ذلك لأن طبيعة العقل البشري تشخيصية، أيْ أنه يتصور المفاهيم مُشخَّصة، ويَصعب عليه الإيمان بالمجرَّدات، لا سيَّما إنْ جرى تعضيد هذا التشخيص باللغة، والتي هي الأخرى مَنشؤها هذا العقل التشخيصي.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive