الرجوع

التحوّل الديني والإسلام الصوفي

الإثنين

م ٢٠١٩/٠٢/٢٥ |

هـ ١٤٤٠/٠٦/٢٠

عِشتُ منذ أسبوعين تجربة فريدة، حينما كنتُ أقدِّم دورة دراسية حول الإسلام، لفائدة رجال دين مسيحيِّين. أثار انتباهي أحدُ المشاركين، اسمه الشخصي "ب. ع. ك." يشير إلى هُويّة مسيحية، واسم عائلته يشير إلى هُويّة إسلامية. علمتُ بعد ذلك أنه قَسّ بروتستانتي اعتنق المسيحية منذ بضع سنوات، بعد أن كان مُسْلمًا وإمام مسجد، وأنه عاش تجربة دينية مريرة، اختلط فيها ما هو شخصي بصراعات سياسية دامية.

أبدَى هذا الشابّ طَوال الدورة حماسًا شديدًا للتعريف بقيم المسيحية، ولم يُخْفِ انخراطه الحماسي في العمل التبشيري، وأكَّد لي كيف "أن عبوره للمسيحية غيَّر حياته بشكل جذري، وأن لقاءه بيسوع المخلِّص ملأ قلبه بالطُّمَأنينة". لكن، ما أثار انتباهي أكثر من هذا كلِّه، أنه لم يُخْفِ على الإطلاق أنه لا يزال يحبُّ المسلمين، ويَكُنُّ الكثير من الاحترام للإسلام وقيمه، رغم الكراهيَة التي واجهه بها الكثير من أقاربه. بل إنه أصرَّ على أن يشاركني في مهمَّة التعريف بأُسُس الإسلام أمام زملائه، خصوصًا أن معرفته لنصوص القرآن والحديث كانت جيِّدة.

بالنسبة إليَّ، فإن الأمر يتعلق بأكثر وضعيّات حوار الأديان أصالة، لدرجة أنني لم أجد لها اسمًا خاصًّا، في المراجع التي تُعرِّف وتحدِّد أشكال الحوار بين الأديان. وقد جعلني هذا أفكِّر في ضرورة إعادة التفكير، في مسألة تغيير المعتقد الديني، والتي تحوَّلت إلى ظاهرة عالمية بفضل عولمة التواصل بين الأديان والمذاهب، والاعتراف المتزايد بحرية المعتقد والضمير.

لا شك أن تَمثُّلات سلبية رافقت دائمًا فِعل التحوُّل الديني، الذي يشكِّل صدمةً للتديُّن الجمعي. وكثيرًا ما تبدو الأديان كما لو تحوَّلت إلى قبائل وعشائر مهووسة بكثرة أتباعها؛ ما يفسِّر الضجة الإعلامية التي تُرافِق عمليات العبور الديني، واستغلالها لتأجيج الصراع بين الجماعات الدينية، والرفع مِن أسهُم كلِّ دين في "بورصة الأديان". وفي بعض البلدان يثير ذلك تصدُّعات اجتماعية وتوتُّرات طائفية، خصوصًا في المجتمعات المتعدِّدة دينيًّا.

في مجال الصراع الديني والمذهبي، يصبح التحوُّل الديني ضلالًا عن الطريق الحقِّ، وتسيطر نظرية المؤامرة على عقول الكثير من المتديِّنين، وتتعمق الكراهية بين الجماعات الدينية. يُرافِق ذلك خطابات نمطية، مِثل كَون التحوُّل الديني استهزاءً بالأديان، ويجري وصْم المتحوِّل بالجهل بدينه، وبالانتهازية أو الاضطراب النفسي والعقلي. من جهة أخرى، يلاحَظ أحيانًا تشدُّد المتحوِّلين، ونزوعهم نحو تكفير معتنقي عقيدتهم السابقة وتسفيهِهِم، خصوصًا عندما يتعرَّضون للوصم والإقصاء الاجتماعي بسبب انتمائهم الجديد.

يجب أن نعترف بأن التحول الديني جزء من دينامية الديانات كَكُلّ. وقد تتَّخذ أشكالًا مختلفة، مثل: الانتقال من مذهب ديني إلى آخر، ومن دين إلى آخر، ومن اللادين إلى الدين، أو من الدين إلى اللادين. لكن، ماذا يعني التحول الديني بالنسبة إليَّ كمسلم؟ أعتقد أنه تَحوُّل إيجابي يدلُّ على أن الأديان تنتقل -على صعيد كوني- من مرحلة الانتماء النهائي، إلى مرحلة الاقتناع والتجربة الفردية؛ ما سيجعل الأديان تتخلص من ازدواجية فكرية، تجعل المتديِّنين يتحدثون بـ"اعتناق الدين" عندما يتعلق الأمر بدينهم، وبـ"الرِّدّة" عندما يتعلق الأمر بالخروج منه. بالنسبة إلى الأديان يصبح التحوُّل الديني تجربة وامتحانًا أخلاقيًّا، يضع الإيمان على مِحَكِّ تجربة الحرية. فهل نستمر في حبِّ أولئك الذين لم يعُودوا جزءًا من عائلتنا الدينية، لكنهم لم يفارقوا دائرة الإنسانية ولا دائرة الرحمة الإلهية؟ وهل نَقْدر على حبِّ من يُخالفنا؟ هل نَسعد بسعادتهم؟

أعتقد هنا أن الإسلام الصوفي يمنحنا تأويلًا للدين، يسمح بخلق الشرط الديني لقبول حرية التحول الديني. يرى الصوفية أن الله يحبُّ البشر مهْما كانت أديانهم ومذاهبهم، وأنهم لا يتوجهون من خلال أديانهم إلَّا إلى "معبود واحد". فكلُّها تجلِّيات إلهية، يُفترض فيها أن تزيد من تواضعنا و خيريَّتنا. يقول الله تعالى: {لكلٍّ جعلنا منكُم شرعةً ومنهاجًا ولو شاء اللهُ لجعلكُم أمَّةً واحدةً ولكن ليبلُوَكُم في ما آتاكُم فاستبقُوا الخيراتِ إلى الله مَرجِعكم جميعًا فينبِّئكم بِما كُنتم فيه تختَلِفون} [المائدة: 48]. هكذا يصبح حبُّ الآخر الشكل الأسمى للدين. يقول ابن عربي: "أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهَت ركائبُهُ، فالحبُّ ديني وإيماني".

لقد غيَّر المَدعُوُّ "ب. ع. ك." ديانته، لكن إنسانيته أصبحت أكثر عمقًا. فأقول له: حيثما كانت سعادتك وسكينتك، فإن الله هناك! والله أعلم.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive