الرجوع

التديُّن الشعبي في تركيا المعاصرة.. التعليم الديني غير المؤسَّسِيّ

الإثنين

م ٢٠١٩/٠٦/٢٤ |

هـ ١٤٤٠/١٠/٢١

تُعدُّ تركيا المعاصرة واحدةً من الجغرافيات الهامة، من حيث ماهيّة المكوِّن الديني وطبيعته، أو تَمظْهُرات السوسيولوجيا الدينية وتنويعاتها داخلَها، والتي تمخَّضَت عن نِتاج إرثٍ تاريخي متراكم على امتدادات متوالية، تاريخُها منذ نشأة "الدولة العثمانية" حتى انقضائها عام 1923م، في حين تتجلَّى صيرورتها الدينية الحاليّة، في حجم التقاطع والتشابك في تمَظْهُراتها المعبِّرة عن عقائدها من جهة، والفضاء المَشرقيِّ الإسلامي والعربي الكبير من جهة أخرى .

على الرَّغم من التحوُّلات التي عايشَتها تركيا في الانتقال نحو الجمهورية، وتعزيز "القوميّة" في نسختها العلمانيّة، فإن الإسلام في صورته التقليدية "الشعبية"، نجح إلى حدٍّ بعيد في أن يصبح فاعلًا مجتمعيًّا بارزًا في الحياة اليومية "العاديّة"، لنِسبٍ كبيرة من الأتراك؛ إذْ يعُود ذلك في المقام الأول لِمَا يمكن تسميته بالدور البارز لـ"التديُّن الشعبي ، الذي عُدَّ واحدًا من المكوِّنات المَعارفيّة والثقافية ذات الطابع التقليدي، التي يرجع الفضل إليها في الحفاظ على إسلامية الفضاء التركي العامّ، ومضامين هُويَّته الإسلامية/العثمانية القديمة، من خلال ممارسات وآليَّات، انتهجها الأتراك بشكل اعتياديّ مُغايِر إلى حدٍّ بعيد وجوهري، عن إسلام الأيديولوجيا أو الآخر الحركي/المُسيَّس.

في الوقت الذي تتنوع فيه مظاهر التدين الشعبي في تركيا، وتتفرّع وتأخذ أشكالًا شتَّى، يبقى التعليم الديني الذي اتخذ شكل "المَدارس أو الكتاتيب"، واحدًا من أبرز الملامح الهامة، التي أثَّرَت في روح الأتراك ووِجْدانهم على مدار عقود طويلة؛ إذ لعبت مدارس تحفيظ القرآن الكريم، دورًا بارزًا في الحفاظ على اللغة العربية حيَّةً في قلوب الأتراك، في الفترة التي تلَت تَحوُّلهم وانفصالهم عن العالم العربي والإسلامي بعد إعلان الجمهورية عام 1923، والانسلاخ تدريجيًّا من إرث العثمانية وهُويّته الإسلامية، خاصة فيما يخص "اللغة"، ومدى تمَوضُعها في سياقات المجتمع والسياسة والثقافة. فمع تبدُّل الأحرف العربية إلى الأخرى اللاتينية، لم تجد اللغة العربية شيئًا فشيئًا مكانًا لها في تركيا المعاصرة، إلى أن انتُزعَت من السياق المجتمعي بكماله .

يُعدُّ الشيخ سليمان حلمي طوناخان -تُوفي عام 1959-، واحدًا من أبرز المؤسِّسين للتعليم الديني الشعبي، إذ اعتَمد منهجًا فكريًّا وفلسفيًّا، حرص خلاله على تعليم العربية والقرآن الكريم والعلوم الإسلامية. وهي النُّقلة التي استمرَّت عليها تركيا في بدايات الجمهورية التركية، واستمرَّت إلى يومنا هذا، قبْل أن تجري بعض المحاولات الرامية للعودة إلى الشكل المؤسَّسِيّ، لتدشين نظام تعليمي ديني حكومي، يَخرج عن طابعه الشعبي التقليدي. ولاقى في مقابل ذلك الكثير من المضايقات الأمنية من النظام الكماليّ، إلى أن اعتُقل أوّل مرة عام 1939، إضافةً إلى إقالته من الوعظ .

اِتَّسعت دائرة التعليم الشعبي، ومثّل خطرًا كبيرًا تَجاوَز محيطه الجغرافي منذ انطلاقته. وكانت ميزة الشيخ حلمي، ترتكز بالأساس على قرب المسافة بينه وبين الشارع والمجتمع، وعلى تسليط الضوء على التعليم الشعبي/الديني، المرتكز على الحفاظ على اللغة العربية وتَعلُّم القرآن الكريم؛ ما أعطى تَحرُّكاته وتلامذته بُعدًا مُغايرًا عن الرموز المعاصرين له، في حين نجح التعليم الديني في نسخته الشعبية، في إجبار النظام السياسي التركي عام 1949، على افتتاح المدارس الدينية بشكل رسمي مؤسَّسِيّ. وهو ما كان يطمح إليه حلمي طوناخان.

إن أهمية قراءة التدين الشعبي في تركيا المعاصرة في إحدى تمَظْهُراتها، ممثَّلة في التعليم الديني الممارَس بشكل غير مؤسَّسيّ، وعبْر أُطُر تقليدية، تُوضح حجم الجهد الذي لعبه هذا النوع من التديُّن عبْر عقود متتالية، في الحفاظ على أمْرَين هامَّيْن. أوَّلُهما: استعادة بعض من الهُويّة العثمانية القديمة المترادفة للإسلام في المِخيال الشعبي التركي. والثاني: أن تَظلَّ اللغة العربية حاضرةً في المشهد الثقافي والمعارفية في الجمهورية اللائكية، بعد تلاشيها وانتفائها بفعل التحولات السياسية التي عايشَتها. وهو ما يدفعنا إلى فهم صعود الاتجاهات الإسلامية المحافظة، في المشهد المجتمعي والسياسي في تركيا خلال الـ15 عامًا المنقضية من جهة، وفهْم أنها لم تكن وحدها وحسْب السبب الرئيس في انتشار التَّمَظْهُرات الإسلامية، المحافِظة على النحو القائم في الداخل التركي؛ ما يعني أن إرجاع صعود ما يسمَّى بالإسلام المحافظ إلى السياق السياسي الداعم لها، في ظلِّ تَصدُّر حزب العدالة والتنمية ذي الوجهة المحافِظة وحسْب، مُغْفِلًا كلَّ الأطوار التكوينية السابقة عليه؛ يُصبح قراءة قاصرة وغير حقيقية.

ذلك يعني، أن التديُّن الشعبي متقدِّمٌ على الإسلام المُؤَدْلج، وأكثرُ تأثيرًا من غيره، وذو جذور ضاربة في قلب المجتمع التركي، وأكثرُ شموليّةً من غيره؛ إذ يحوي بين جانبيه الإسلاميَّ والعلمانيَّ والقَوميّ، جنبًا إلى جنب.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive