الرجوع

التطرُّف والسطحيّة

الثلاثاء

م ٢٠١٧/١٢/١٢ |

هـ ١٤٣٩/٠٣/٢٤

 

أتأمّل الحالة التي وصلْنا إليها، أعُدُّ الخسائر المُتراكمة على بلادنا من جرّاء الكراهية، وأبحثُ عن الأسباب التي لا يُمكن حصرها، أُحاول الحفر في أعماق المشكلة علّني أعثُر على سببٍ لم يجر التطرُّق إليه، فأدقُّ ناقوس الخطر، لنضع أيدينا على كلّ الثقوب التي قد يتسلّل منها التطرّف، فنغلقها بالأسمنت المُسلّح، ونُحصّن كياننا الإنسانيّ مِن هذه الآفَة.

أبحث في كيفيّة انتشار ذاك الفكر -إنْ صحّ تسميته بالفكر؛ لأنّه قائم على التبعيّة المُطلقة، ونبْذِ التفكير واستخدام العقل-، ومقدرته على احتلال العقول أو تحييدها، لأجِدَ أنّ هناكَ سببًا مُهمًّا قلَّما تطرَّقَ إليه المُحلِّلون والكُتّاب مع أهمّيّته، ألا وهو تَراجُع حضور الفكر أصلًا. لقد كان التطرف هو اللاعب شبه الوحيد، وانتشارُه حصل بالتزكية لعدم وُجُود مُنافس حقيقي؛ أمّا البديل إنْ وُجِدَ فهو السطحيّة والابتذال.

لقد وَجد التطرُّف في منطقتنا تُربَتَه الخِصبة في منتصف الثمانينيَّات، معَ تراجُع الحركات الفكريّة والثقافيّة والفنّيّة. والباحث في تلك الفترة يُلاحظ صعود ما كان يُطلق عليه الفنّ التجاريّ القائم على الرِّبح، حيث ازدهرت السينما التجاريّة مثلًا، وهبطتْ أسهُمُ الفنِّ الراقي والفكر الواعي، اللَّذَيْن كانَا في أزهى عصورهما في عقودٍ سبقت هذه المرحلة، عصور عَمالقة الفنّ والأدب العربيّ.

ما زالت صور حفلات أُمِّ كلثوم تُنشر حتّى يومنا هذا، لتعطيَنا مُقارنة بسيطة بين الجمهور آنذاك والجمهور اليوم. كانت حفلات سيّدة الغناء العربيّ تستقطب العرب مِن الشرق إلى الغرب، تذهب السيّدات بكامل أناقتهنّ وزينتهنّ بِصُحبة الرجال في مشهدٍ راقٍ لا تشوبُه شائبة؛ ليستمتع الجميع بصوت السيّدة، وعزف عمالقة الموسيقى العربيّة.

لم تكُنْ أُمُّ كلثوم وحْدَها في الساحة الغنائيّة، بل إنّ الفنّ الرّاقيَ كان حالةً عامّة لا يرضى الجمهور إلّا بها. وما ينطبق على الغناء يُمكن تعميمه في فنَّي السينما والمسرح، وهذا لا يعني انعدام السطحيّة في الطرح في تلك الفترة تمامًا، ولكنَّ القصد أنّ الحالة العامّة كانت حالةَ إبداع، والدليل أنّ أفلام أبطال سينما الأبيض والأسود، أمثال: فاتن حمامة، وعمر الشريف، وغيرهما، ومسرحيّات تلك المرحلة، ما تزال تُعاد وتُشاهد من مُحبِّي الفنِّ الراقي الجميل حتّى اليوم.

قدَّمَ التطرُّف نفسه كمُحاربٍ وحيد للسطحيّة والابتذال، في حين انشغل الإعلام وما زال للأسف، بالترويج للسطحيّة التي بَدَتْ مُربِحةً ماليًّا تحتَ ذريعة "الجمهور عايز كده". انقسمَ المجتمع الذي كان وسطيًّا بأغلبه بين الفريقين، واستطاع التطرُّف أنْ يجلبَ المزيد من الناس، باستخدامه أسلوب المُقارنات الذي ما زال يستخدمه إلى الآن، "فإنْ لم تكُنْ معَنا فأنتَ معَ ذلك الفجور والابتذال". وهذا ما فتِئْنا نقرَؤُه ونُشاهده في أقلام المُتطرِّفين في وسائل الاتّصال الاجتماعيّ حتّى اليوم.

اختفى الفكرُ الراقي تمامًا؛ لغياب نُخبته وعدم مخاطبتهم العامّة، وابتعادهم عن الشارع. استعلاء النخبة كان له أكبر الأثر في سيطرة التيّارات المُتطرّفة، التي امتلكت تلك المنابر، وانقسمَ الإعلام بين مُروِّجٍ للسطحيّة ومُروِّجٍ للتطرُّف؛ أمّا المُعتدلون فوجدوا أنفسهم بين "حانا ومانا"، ولم يعُد لهم تأثيرٌ يُذكَر.

يجبُ اليومَ ونحنُ نُحصي الخسائر ونستعدُّ لمعركة فكريّة ونحشد لها، أنْ نأخذ بعين الاعتبار أنّنا إنْ أرَدْنا مُحاربة التطرُّف، يجب أنْ نُحارب السطحيّة أيضًا، ونمتنع عن التصفيق لها، ويجب أنْ نُقدِّم فكرًا راقيًا يعتمد على ثلاثيّة العقل والمنطق والعاطفة. الحرب ستكون فكريّة، فالفكر لا يُحارَب إلّا بالفكر، سلاحنا هو القلم، والأدب، والفنّ، والتوعية.

قد لا نملك الإعلام الذي ما زال مشغولًا بالرِّبح، ولكنّنا أمام وسائل الاتّصال الاجتماعيّ لم نعُدْ بحاجة إليه، فتأثير الفيسبوك وتويتر اليوم أكبر مِن تأثير البرامج التلفزيونيّة. لِنروِّجْ للثقافة، وَلْندعُ إلى القراءة، فهي تملك مفاتيح العقول المغلقة، ولْنُخاطبِ العقل ونُحرّكْ سواكنَهُ للتفكّر، ولْنُسوِّقْ للفكر الإنسانيّ الذي يُوحّد بين الناس ويُزيل الفوارق، ولْنشجِّعِ الفنَّ الراقيَ والأدب الهادف، فلْنبدأْ حركةً فكريّةً شاملةً يتشارك فيها الأدباء والمُفكِّرون والفنّانون وعامّة الناس، تُقدِّمُ خطابها للجميع دون استثناء.

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبته ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

 

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

الكلمات الدليلية

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive