الرجوع

التعاطف بين الدين والتفسيرات المشوهة

الأربعاء

م ٢٠١٨/١٢/١٩ |

هـ ١٤٤٠/٠٤/١١

حدَّثني زوجي قُبيل أسابيع بِحوار دار بينه وبين أحد زملائه بعد خُطبة الجمعة، والتي كانت عن "الرحمة والتراحم". زميله الذي حصل معه الحوار عربي مسلم، نشأ وتربَّى في أحد البلاد الأوروبية، والتي مرَّت أخيرًا بأزمة اقتصادية أضرَّت بالناس وبسِيَر حياتهم. استفسر زوجي منه عن تلك الحادثة وعن أثرها في الناس، فَفُوجِئ بقول الرجل بأنه لا يكترث مطلقًا للأزمة، ولا يهتمُّ بما أصاب الناس في تلك البلاد، ولا يتعاطف معهم لأن أغلبهم غير مسلمين، ولو كانوا مسلمين لاهتمَّ بشأنهم. تأثَّر زوجي كثيرًا من موقف زميله الذي يجعل الدينَ مُسوِّغًا لعدم الاكتراث لمعاناة الأبرياء من الناس. فدار بينهما على إثر ذلك نقاش طويل، حول طبيعة العلاقة التي يحثُّنا عليها الدين في تعاملاتنا مع من ينتسبون إلى أديان أخرى. فهل يحثُّنا الدين على أن نتعاطف مع معاناتهم، ونُناصر قضاياهم العادلة، ونفرح لأفراحهم؟ أم هل جاء لينهانا عن ذلك، ويحثُّنا على أن نَحصر مشاعرنا فيمن ينتسب إلى ديننا، ولا نكترث لحال غيرنا؟ تأثَّرتُ جدًّا بعد أن حكى لي زوجي هذا الحوار، واستوقفني لِأُعيد اختبار مواقفي في مثل هذه الأمور. تذكَّرتُ على سبيل المثال حرائق كاليفورنيا قبل شهر تقريبًا، التي حدثت خلال وجودي في الولايات المتحدة، والتي لم أكترث كثيرًا لها. قارنتُ ذلك بموقفي خلال إعصار فلوريدا قبل عام، والذي تَضرَّر فيه العديد من أصدقائي المسلمين وغير المسلمين، فتعاطفتُ معهم وحاولتُ مساعدتهم وقتها. تساءلت في نفسي: "هل أنا انتقائية في تعاطفي مع حوادث العالم، فأتعاطف فقط مع الذين بيني وبينهم رابطة معرفة، أو انتماء ديني أو مذهبي؟". تأمَّلتُ في نُبل نفوس أولئك الذين اتسعت مشاعرهم الإنسانية، ليتعاطفوا مع الأشخاص الذين لا يعرفونهم، ولا يشتركون معهم في اللغة أو الدين أو الثقافة أو غيرها من المشترَكات. فَأَنْ تُشارك الغريب عنك في همِّه وحزنه، وتقف لأجله وتبذل له ما يعينه على تجاوز محنته تلك، مرتبةٌ عالية. قُبيل شهر كنتُ مع مجموعة مع الزملاء، وجاء الحديث عَرضًا حول كاليفورنيا. فألقى أحدهم نكتة سريعة، يشجعنا فيها على زيارة كاليفورنيا قُبيل أن تحترق بالكامل! أذكُر أن أحد الحاضرين اعترض بشدة على هذه النكتة، وعلَّق بأن هذه كارثة مات بسببها أشخاص بريئُون، بل حتى إن الطبيعة تضرَّرَت منها وليست مجالًا للنكتة والضحك. تعلَّمتُ منذ كنتُ طفلة أن الرسول محمَّدًا (ص)، كان رحيمًا مع المسلمين ومع غير المسلمين. فكان يَعُود جيرانَه اليهود حالَ مرضهم ويُحسن إليهم، رغم ما ذاقه من مؤامرات ومكائد من بعض يهود المدينة. ويُروى أنه مرَّت أمامه ذات يوم جنازة، فوقف احترامًا لها. ولمّا قال له بعض أصحابه متعجِّبين من سلوكه ومستنكِرين: إنها جنازة يهودي! ردَّ بقوله: "أليست نفْسًا؟!" هذا الموقف درس لِتَجاوُز الانتقائية في التعاطف، اتِّكاءً على الدين. أليست نفْسًا؟! عبارة يمكن أن يُسطَّر منها منهجٌ للتعامل مع المخالفين. في قول الله تعالى: {لا يَنْهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدِّين ولم يُخْرجوكم من دياركم أَنْ تَبَرُّوهُم وتُقْسِطوا إليهم إنَّ الله يحبُّ المُقْسِطين} [الممتحنة:8]، حثٌّ على البِرِّ والإحسان والقسط لِلمُسالِمِين من كلِّ ملَّة. وفي سلوك الرسول الكريم ما يَحثُّ الناس لِتَتعاطف، ليس فقط مع من يشترك معهم في الرابطة الإنسانية، بل حتى مع النبات والحيوان. فقد نهى أصحابه عن تخريب الأشجار والديار حال الحرب، ولمَّا عَلِم بحال طير أُخذ فراخها منها، قال: "من فَجَع هذه بولدها؟ رُدُّوا ولدها إليها". كلُّ هذه المواقف والنصوص في تراث المسلمين، تحثُّ على الرُّقي والإحسان في التعامل مع غيرنا من الناس والأشياء. وقد بُعث رسولنا رحمة للعالمين. وليس لديَّ شكٌّ في أنَّ لدى أتباع الديانات الأخرى شيئًا ما يحثُّهم على الإحسان للمخالف. تُرى لماذا بعد هذا ينتشر لدى بعض المتديِّنين الجفوة في التعامل، وعدم الرحمة لمن خالفهم في ملَّتهم دون أن يَعتدي عليهم؟ سألتُ بعض أصدقائي هذا السؤال، وكانت الردود متفاوتة. فبعضهم ذكَر بأنه من الممكن تفسير هذه الجفوة في المعاملات، كتسجيل موقف واعتزاز بالهُوية والدين والمنهج المتبع، وبعضهم ذكر بأن الرحمة في التعامل واللِّين، كان ويكون في حال القوة والانتصار لا في حال الضعف، وهناك قِسم اعترضوا على ما سبق وآثروا التعامل بالخُلق الحسن والرحمة مع الجميع، ما لم يكونوا ظَلَمة ومُعتدِين. فحينئذ يعاملوهم بالمِثل. وأنتم، ما آراؤُكم حول هذا السؤال؟

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive