الرجوع

التعددية الدينية والحقيقة الدينية

الثلاثاء

م ٢٠١٧/٠٢/٠٧ |

هـ ١٤٣٨/٠٥/١١

ما يزال الحوار حول مفهوم "التعددية الدينية" في مجتمعاتنا العربية ملتبسا وغير منجز، سواء كان ذلك في سياقها الفلسفي الذي يفضي إلى "وحدة الحقيقة الدينية"، أم كان في سياقها الاجتماعي الذي يتصل بحرية الاعتقاد وإقامة الشعائر والطقوس. وإذا أضفنا إلى هذا الإشكال زيادة التوظيف، والاستقطاب الطائفي في الصراعات السياسية الطاحنة في منطقتنا العربية، فإن التعددية الدينية ووحدة النسيج الاجتماعي، ربما تكونان هما الخاسرتين الكُبرَيَيْن في هذه الفوضى الحمقاء.

ومما يزيد الباحث قلقا، زيادة أنماط التدين السياسي والحرفي الذي لا يرى في الدين سوى عقيدة ناجزة ومسبوكة، الأمر الذي يثبت عجز تلك الأنماط عن إنتاج فكر اجتماعي قادر على فهم واحترام التعددية الدينية.

إذا أردنا الحديث عن فضائل التعددية، فإننا نجدها تمثل الصيغة المُثلى لتعارف الناس وتلاقح خبراتهم، وشحذ سعيهم نحو التسابق إلى الخيرات وعمل الصالحات ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [المائدة: 48].

تتفق التعددية ومنهج القرآن الذي يفتح أمام الإنسان أفقا واسعا للبحث عن التعاليم الدينية غير المنصوص عليها، وذلك عبر تأكيده وجود أنبياء ومرسلين لم يذكرهم القرآن. ﴿وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ [النساء: 164].

كما تنسجم التعددية الدينية مع تأكيد القرآن اختلاف شرائع الأنبياء، بحسب اختلاف لغات الشعوب وثقافاتهم ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: 4].

إن اختلاف المؤمنين وتباين أشكال طقوسهم ليس دليلا على اختلاف الغاية التي يسعون وراءها، كما أن الطمأنينة والسكينة التي ينشدها الناس في معابدهم وهياكلهم وأديرتهم، لا تنحصر في هذا المكان أو ذاك!

يتصل جوهر التعددية الدينية بجوهر الحقيقة الدينية، التي تستعلي فوق الأسماء والأوصاف وتشمل الخلق كله ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [الإسراء: 44].

البحث عن الكلمة السواء بين أتباع العقائد المتعددة هو منهج قرآني أصيل ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ﴾ [آل عمران: 64].

فالغايات العظمى هي المعول عليها في فقه الاختلاف، وليس مظاهر الاختلاف وأشكاله. وما يطمح إليه أتباع الأديان جميعا وفق المنظور القرآني، هو بلوغ الإيمان بالخالق الذي تتمثل به معاني الكمال والقوة والجمال.

إن تعدد أشكال الحقيقة واختلاف مراحلها، لا يختلف في جوهره عن تعدد أشكال الحياة واختلاف أنواعها ﴿وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الأُكُلِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الرعد: 4].

الشعور بالاستحواذ على الحقيقة الدينية هو شعور طفولي يعبر عن رغبة جامحة للذات في التماهي مع الحقيقة، والمؤمن الراشد يرى في حدائق الأديان تجليات لحقيقة واحدة، يستعصي على صاحب بستان واحد احتكارها والاستئثار بها.

الطريق الأمثل لبلوغ الحقيقة الدينية هو الدعوة إلى الحكمة والحوار بالتي هي أحسن، فالإيمان بالله ليس مقررا عقديا يُفرض على الناس بالقهر والاستبداد، وإنما هو سعي دؤوب وتدبر عميق في أعماق النفس وآفاق الخلق.

ليس من اليسير الإقرار بأن بذور الحقيقة الدينية، كامنة في ثمار كل محاولة إنسانية صادقة تسعى إلى اكتشاف المعاني الكبرى للوجود.

إن أعظم دليل على صدق أَتباع ديانة، هو اتساع صدورهم وانفتاح عقولهم تجاه من لا يماثلهم في التصورات والمعتقدات. وهنا تصبح التعددية الدينية محكًّا وشاهدًا على كل ذي دين ومذهب. فمن لا يَحْتَفِ بالتعددية وينخرط في صفوفها، فهو في خصام مع الدين في جوهره ومضمونه العميق. ومن لا يُحبّ لِمَن يخالفه بالمعتقد ما يحبه لنفسه من الحقوق والحريات، فقد أساء للإيمان واعتدى على أخيه الإنسان.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive