الرجوع

التعدّديّة الثقافية والحريات الشخصية

الجمعة

م ٢٠١٧/١٠/٢٠ |

هـ ١٤٣٩/٠١/٣٠

يعتقد خطأً بعضُهم أنّ هناك تناقضًا بين الاعتراف بالتنوّع الثقافي المكوّن لمجتمع ما، وإعلاء شأنه، من جهة، واحترام الحريات الشخصية للمواطنين وتعزيزها من جهة أخرى. فيبدو عندها لهؤلاء أنّه يجب الاختيار بين منظومتين في إدارة الشأن العام: إما التعدّدية السياسيّة كالفدراليّة أو ما شابهها على أساس انتماءات المواطنين المختلفة، أو الليبرالية القومية أو العلمانية التي لا تقيم وزنًا سياسيًّا إلّا للأفراد، بصفتهم المواطنية.

نجد أمثلة على أرض الواقع داعمة لهذا التوجّه، بحيث نرى في بعض المجتمعات المركبة سياسيًّا على أساس منظومة "فدرالية الطوائف" كلبنان والعراق وحتى مصر إلى حدّ ما، تنامِيًا للعصبيات الجماعوية والطائفية على حساب الحريات الفردية العامة. فأيُّ خروج عن الاصطفاف الطائفي لأحد المواطنين، يُعتبر وكأنّه خروج على الجماعة، وخيانة لها. إذ توجد صعوبة كبيرة لِعِراقيّ من الطائفة الشيعيّة مثلًا، أو مصري قبطي، أو لبناني درزي، أن يتّخذ مواقف تتعارض مع الجو السياسي العام لجماعته. فالتضامن الطائفي في هذه الحالات يصبح معيار تحقيق الصالح العام، باعتبار هذا الأخير يمرّ حتمًا عبر تحقيق مصالح الجماعة الخاصة.

مع تنامي هذا المنطق "الطائفي" تتحوّل الجماعات الخاصة، دينية كانت أم إثنية، إلى اللاعب السياسي الأول في الإطار الوطني، ويخسر الفرد جزءًا كبيرًا من دوره وقدرته على المشاركة السياسية. بمعنى آخر تصبح الجماعة هي المكوّن السياسي الأساسي. وغالبًا ما يحتكر تمثيلَ الجماعة "زعيم"، أو بعض "الزعماء" الذين يدّعون حماية مصالحها، وهم في الواقع يمارسون في كثير من الأحيان استبدادًا مقنّعًا، لا يخدم سوى مصالحهم الخاصة والفئات المستفيدة من حولهم. في هذا السياق، لا يَضعف دور المواطن في المشاركة السياسية وحسب، بل تتراجع أيضًا المؤسسات العامة وقدرتها على إدارة الحياة السياسية بشكل ديمقراطي وسليم. لذلك نلاحظ أنّه في مثل هذه الحالات، يفقد النواب المنتخَبون حيّزًا كبيرًا من دورهم وهالتهم، إذ يبدون موظفين عند زعماء الطوائف الذين اختاروهم في لوائحهم الانتخابية، أكثر منه ممثِّلين حقيقيين للشعب. ففدرالية الطوائف تستنزف مؤسسات الدولة ومنظومتها القيمية، وتخنق الحريات الفردية باسم التضامن الجماعي.

يجب إدراك عمق المشكلة والتنبّه على أنّ الأنظمة الجماعويّة والطائفية، لا تخدم الجماعات الخاصة، ولا المواطنين. إذ إنّها تُولِّد ضمن الجماعات منظومة إقطاعيّة، يحتكر من خلالها بعض النافذين بشكل غير ديمقراطي تمثيل جماعتهم، وتُستعمل الديمقراطية كغطاء لهذا الواقع. كما تسعى السلطة الإقطاعية الجماعوية إلى تهميش النخب الفكرية والاجتماعية والسياسية، إن لم تستطع "شراءها" والحصول على ولائها لها، لكي تبقى بدون منافس حقيقي.

إنّ فدرالية الجماعات والطوائف هي تشويه للتعددية الثقافية، واستغلال منحرف لمبدأ التنوّع. كما أنّ القومية الانصهارية، إيديولوجية كانت أم دينية، تؤول في كثير من الأحيان إلى التضييق على حريات الفرد، خاصة في ما يتعلّق بالتعبير عن خصوصياته الثقافية.

التحدّي الحقيقي في إدارة المجتمعات المتعدّدة يكمن في المواءمة بين الاعتراف بالتنوّع وتثمينه في الحيّز العام، والمحافظة على الحريات الفردية ودور المواطنين الأساس في المشاركة في الحياة العامة، لا على قاعدة الانتماء الخاص، بل على أساس السعي المدني لتحقيق الصالح العام.

يتطلّب هذا الأمر التمسّك بالمبادئ الآتية:

  • 1- المواطن الفرد وليس الجماعة هو ركن الحياة السياسية والديمقراطية.
  • 2- التمثيل الديمقراطي هو للأفراد ومصالحهم التي يحدّدها الرأي العام الحرّ، وليس للجماعات ومصالحها المحتكرة من إقطاع سياسي يتحكّم فيها.
  • 3- التنوّع الثقافي يأخذ مكانته في الحيّز العام بقدر ما يصبح جزءًا من الإرث المشترك، فينتقل من صفة الخاص حصرًا، إلى الخاص-العام.
  • 4- الترابط الاجتماعي والوحدة الوطنية يقتضيان اعتراف الجميع بالمكونات الثقافية للمجتمع الواحد، والانفتاح عليها، وتثمين إسهاماتها في الحياة العامة وتعزيزها.
  • 5- في حين يمكن الحديث عن حقوق ثقافية للجماعات، تبقى الحقوق السياسية، وتمثيلها، محصورَيْن في الأفراد.
  • 6- على الحياة السياسية السليمة أن تُسهم في حماية الجماعات من أي إقطاع سلطوي يحتكر تمثيلها، من قبل بعض الأفراد النافذين لأسباب اقتصادية أو غيرها، كما في حماية الأفراد من أي تسلّط جماعوي يُفقدهم القدرة على ممارسة حرياتهم الفردية، كالفكرية، والدينية، والاجتماعية.

في النهاية، إنّ المجتمع الذي لا يستطيع تأمين الحرية الحقيقية للأفراد، كمواطنين مسؤولين ومساهمين في الحياة العامة، لن يقدّم للجماعات سوى شكلٍ هشٍّ من الاعتراف بخصوصياتها، وغالبًا ما يصبح أداة للتلاعب السياسي بها، وفق تلاقي مصالح أهل الحكم والسلطة. بهذا المعنى تصبح التعددية الثقافية معيارًا للحريات الفردية، والعكس صحيح، على خلاف ما يظن الكثيرون. فالتنوّع يشكل الأرض الخصبة للحرية، كما أن الحرية هي منبع للتنوّع بمختلف أشكاله.

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive