الرجوع

التعليم وإعادة إنتاج الظلم الاجتماعي

الأربعاء

م ٢٠١٨/٠٥/٣٠ |

هـ ١٤٣٩/٠٩/١٦

حين أكَّدَت الدول الحديثة والمنظمات الدولية حقَّ التعليم للجميع، كانت تدرك أن لا سبيل إلى التقليل من التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، إلا بالتعليم الذي يقود إلى تحرير الإنسان من القيود المختلفة، التي تُعيقه ليس فقط عن استثمار الفرص المتاحة للعمل والإنتاج والترقي في السلم الاجتماعي، والمشاركة في تَولِّي المناصب العامة، التي يمكن أن يُغيِّر من خلالها وضعَهُ ووضع الفئات المهمَّشة التي ينتمي إليها، ولكن أيضًا -وهذا الأكثر أهمية- عن صناعة الفرص له ولغيره، في حال احتكرَتْهَا فئاتُ المجتمع المسيطرة على الفرص المتاحة، نتيجة تحكُّمها في المؤسسة التي تولِّد هذه الفرص.

لذا، أكد المنظِّرون التربويون طَوال القرن العشرين، من أمثال "باولو فريري" و"بيير بورديو"، أن وجود المَدرسة ليس شرطًا كافيًا لجعل التعليم وسيلة للتحرير من الظلم الاجتماعي. فقد تكون المَدرسة هي أداة لتكريس الظلم الاجتماعي، من خلال بُنْيتها ومناهجها وأدوات تقييمها، والفكر الذي يحركها. لذا، نوَدُّ أن نطرح سؤالًا على قدر كبير من الأهمية: ما الدور الذي يمكن أن يلعبه التعليم في الوطن العربي، للتخلص من إنتاج الظلم الاجتماعي؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال، لا بد من تأكيدِ أن النظرة إلى وظيفة المَدرسة، هي التي تحدد الأهداف التي تركز عليها. فإمَّا أن تكون المَدرسة مؤسسة محافظة، تعمل على توفير الأفراد الذين يحافظون على أعراف المجتمع وعاداته وتقاليده ومؤسساته وبُنَاهُ المؤسساتية المختلفة؛ وإمّا أن تكون أداة لتحقيق النمو الشامل للفرد، وإطلاق طاقاته المختلفة ليتمكن من إسعاد نفسه، وهنا تَنحَى منحًى فردانيًّا إنسانيًّا؛ أو أن تكون المَدرسة أداة للتحرر الاجتماعي، وإعداد أفراد متمرِّدين قادرين على تغيير مجتمعهم، واختراق العلاقات المختلفة التي تتحكم فيه، فتُنتج فئات متميِّزة وأخرى مهمَّشة؛ ما يقود إلى صناعة حرمان اجتماعي، والعمل على إنتاج أفراد خاضعين للوضع الراهن الذي يعيشون فيه، ومِن ثَمَّ لا يُغذِّي التعليمُ عندهم نزعةَ التغيير أو التفكير في المَلَكات المختلفة، التي يتمكنون من خلالها من صناعة مجتمعات يَحكمها القانون، وتُظلُّها المواطنة، وتعمل على أهداف يستفيد منها الجميع.

لذا، نرى أن وضع المجتمعات العربية على طريق التغيير، الذي يمكِّن الفئات المختلفة من المشاركة في بناء حاضرها ومستقبلها، يتطلب إعادة النظر في وظيفة المَدرسة في كثير من البلدان العربية.

إن المدارس المتوافرة اليوم في المجتمعات العربية، إمَّا مَدارس خاصة ذات إمكانيات أفضل من حيث المناهجُ والمعلمون، تُعلِّم اللغات الحديثة، ويلتحق بها أبناء ذَوي الوفرة الاقتصادية من كبار المسؤولين والموظفين من أصحاب الرتب العليا؛ وإمَّا مدارس حكومية غارقة في كثير من الإشكاليات المتعلقة بالمنهج والمعلم والتقويم، ومِنْ ثَمَّ تُزاد الضغوط على الأهالي لِلُّجوء إلى الدروس الخصوصية، من أجل مساعدة أبنائهم على اجتياز الاختبارات المعرفية التي تقدمها الأنظمة التعليمية.

حين يفشل التعليم، ينتعش التعليم الموازي، وتُزاد فرص إنتاج الظلم الاجتماعي. فالإحصاءات تشير إلى أنّ أولياء الأمور في مصر ينفقون 40 مليار جنيه سنويًّا على الدروس الخصوصية، وتُنفق الأسر السعودية مبلغًا يُراوِح بين 1000-4000 ريال سعودي شهريًّا، وتبلغ كلفة الدروس الخصوصية في تونس ألف مليون دينار سنويًّا. هذه فقط أمثلة على ما يقود إليه تَدنِّي التعليم في البلاد العربية. السؤال الآن: كيف يمكن أن يكون التعليم أداة للتحرير ومنع إنتاج الظلم الاجتماعي واستمراريته في هذه المجتمعات، في ظل هيمنة الدروس الخصوصية على التعليم؟

يرى المعلِّم البرازيلي "باولو فريري"، أنه لا يوجد تعليم مُحايد، إمَّا أن يكون التعليم أداة للتحرير، أو أن يكون أداة للهيمنة وترسيخ الظلم الاجتماعي، وكبح جِماح حركة الفئات المختلفة في استثمار قدراتها، حين لا يساعد هذا التعليم هذه الفئات على اكتساب المهارات الضرورية للتفكير والعمل والإبداع.

لذا، نؤكد أن الإصلاحات الجزئية التي تقوم بها بعض الأنظمة التربوية العربية، لا يمكن أن تحقق هدفها، ما لم تتغير النظرة إلى وظيفة المَدرسة ودورها في المجتمعات العربية. وليس هناك وقت أفضل للتفكير مثل هذا الوقت، الذي يمكن أن تقود فيه المَدرسة بادرة الأمل، وأن تكون المُناهض الحقيقي للظلم الاجتماعي؛ لأنها مكان للتنوير لا مكان للتجهيل، ومكان للتحرير لا مكان للإخضاع. وقد أثبتت في المجتمعات المتقدمة، أنها في فترات الانهيارات، كانت ورشة بناء الإرادة والطموح.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive