الرجوع

التعليم وبناء الجدل الفكري

الأربعاء

م ٢٠١٧/٠٩/٢٧ |

هـ ١٤٣٩/٠١/٠٧

إن التعليم هو الأداة التي وظفتها كثير من المجتمعات لتحقيق الاندماج الاجتماعي، وبناء القابلية لقبول الآخر واحترامه، باعتباره إنسانًا في المقام الأول، وباعتباره شريكًا في المواطنة في المقام الثاني. ولكي يتحقق هذا الهدف عملت هذه المجتمعات على بناء منهج يركز على التفكير وتنوع الآراء، من خلال عرض قضايا جدلية تتباين فيها الآراء، من أجل تدريب الطلبة على قيمة تعددية الآراء بدلًا من تعليمهم وتلقينهم آراءً أحادية واحدة وثابتة غير قابلة للنقض، أو التشكيك أو المجادلة؛ مما يقود إلى تنشئة جيل أحادي التوجه، ينظر إلى صاحب الرأي الآخر على أنه خارج عن الإجماع المجتمعي أو الوطني أو القبلي أو الأسري. هذا الجيل يكون حارسًا ضد ظهور أية أصوات بديلة أو مختلفة تساعد على تحقيق التغير في المجتمع؛ مما يجعل المجتمعات حساسة ضد الرأي الآخر، لأن التعليم لا يُدرّس قضايا جدلية ولا يقدم روايات متعددة حول أحداث التاريخ، ولا يقدم سيناريوهات متعددة لتنفيذ أفكار معينة.

لا شك في أن قبول التعددية يمثل قوة للمجتمعات، وأداة لتحقيق الاستقرار حين يشعر الناس بأن لهم صوتًا مقبولًا، ورأيًا محترمًا. وانطلاقًا من هذا المعطَى لا بد من أن تعطي الأنظمةُ التعليمية في المنطقة أهمية لتضمين المناهج الدراسية قضايا جدلية، سواء كانت ذات صبغة تاريخية أو ذات صبغة معاصرة متعلقة بالواقع، وتدرب المعلِّمين على كيفية إدارة النقاش حولها، بما يسمح بتنمية مجموعة من المهارات الضرورية في تكوين الرأي ودعمه لدى الطلبة، وتقديمه بصورة لا تسيء لأحد، والإنصات لرأي الآخرين واحترامه، ونقده بصورة موضوعية بدلًا من رفضه دون أي مبررات. ويمكن أن توسَّع هذه العملية التدريسية لتشمل تدريب الطلبة في المراحل العليا، على المناظرة التي تطلَّب تبنِّي آراء مدعومة من أجل الإقناع بالفكر والمنطق بدلًا من الإقناع بالرفض والعنف والتكفير وغيرها من الأدوات، التي يتعامل بها بعض أفراد هذه المجتمعات مع الآراء الأخرى التي لا تتفق مع معتقداتهم.

هذه القضايا يمكن أن تُدمج في المنهج كنشاط له وقت محدد في الجدول الدراسي، ويُعدُّ لكل من المعلم والطالب دليل حول نوعية القضايا وإجراءات المناقشة، وما الدور المتوقع من المعلم أثناءها، ويحدد دور الطلبة أيضًا. ويمكن أن تُجرى مسابقة بين مدارس منطقة معينة حول مسألة الجدل والنقاش، بما يساعد على بناء ثقافة عدم الخشية من الرأي الآخر، وبما يوفر للطلبة فرص مناقشة المواضيع التي تؤثر فيهم داخل المدرسة وخارجها، مثل: الديمقراطية، وصنع القرار، والحقوق، وإدارة المدرسة، والاختبارات وأهميتها، وغيرها من القضايا الأخرى التي تؤثر في المجتمع.

لقد كشفت مجموعة من الدراسات التربوية أن للقضايا الجدلية تأثيرًا إيجابيًّا في الطلبة وتحصيلهم، وبناء قابليتهم على التفاعل والتفكير، وتعزيز الثقة بالنفس، وبناء القدرة على النقد. كما ظهر أيضًا أن هذا الأسلوب التعليمي يقود إلى توليد دافعية لمزيد من الاستقصاء وطرح الأسئلة، والتمييز بين البراهين والأدلة التي تُقدَّم لدعم القضايا. إذًا، هو أسلوب لبناء جيل يكترث لِما حوله، ولديه استقلالية في النظر إلى العالم مِن حوله، بدلًا من أن يكون منقادًا تابعًا لآراء معلَّبة تقود آخرين إلى استغلاله، من أجل تفتيت مجتمعه أو وطنه أو منطقته. ولذا، نأمل أن يكون التعليم فاعلًا في بناء الأمل في المجتمعات العربية، من أجل جعل المدارس وِرَشًا لمناقشة الواقع والخروج منها بدافعية للتغير والبناء، بدلًا من توظيفها كفضاء لصناعة اليأس واللامبالاة اللّذَين دفعت هذه المجتمعات ثمنهما الفادح.

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive