الرجوع

التفسير العقابي لوباء الكورونا

الثلاثاء

م ٢٠٢٠/٠٣/٣١ |

هـ ١٤٤١/٠٨/٠٧

لا يمْكننا حصر وباءِ الكورونا في بُعدَيْهِ الطِّبِّيّ والتِّقْنِيّ؛ إذ إنه ظاهرة اجتماعية أو قضيَّةُ رأي عامٍّ، استَحدثَت مُقاربات إعلامية وقانونية ونفسية مختلفة ومتعددة. فحسَب ما علَّمَنا التاريخ، كُلُّ وباءٍ يُنتِج أنماطًا سلوكية واستجابات سيكولوجية متناقضة، تُعِيد إلى الواجهة كلَّ التَّوتُّرات الظاهرة والكامنة القابعة في أعماق المجتمعات. فالوباء يُزَعزع الأمن النفسيَّ، ويؤجِّج لدى الجميع مشاعر الخوف من المجهول، ومِن مَخاطر فقدان اليقين، ومِن الموت. وغالبًا ما تُصاحِب الأوبئةَ مَوجةٌ من الإشاعات، ومِن نظريات المؤامَرة، يُطْلقها بعضهم، وينجرف وراءها الملايين.

لقد أدْلَت بعض الجهات الدينية بِدَلْوها في هذا الموضوع، وحاولَت كالعادة مُماثلةَ الظاهرة الاجتماعية بالظاهرة الأخلاقية. فكان المَوقف العامُّ في البداية إنكارَ الوباء، بِتَعِلَّة أنَّ دار الإسلام هي الفِرقة الناجية -حيث إنّها مَحميَّة بدِينها وبقِيَمها-، وأنَّ الوباء هو مرَضُ الآخَر المختلف الشَّاذّ في أكله وشُربه وذَوقه. بَعْدها تَوالت التصريحات والبلاغات. فمَثلًا: في تونس، ادَّعى نائبٌ سَلفيٌّ أنَّ وباء الكورونا هو ردُّ فِعلٍ إلهيّ يتمثَّل بغضب الله، أمام القرار الذي اتَّخذَته الحكومة بمنع النِّقاب، تَوقِّيًا من العمليات الإرهابية. وفي نفس السِّياق، فسَّر بعضهم تَفشِّي وباءِ الكورونا في الصين، باعتباره انتقامًا إلهيًّا من السياسة القمعية، التي انتهجَتها السُّلطة الصِّينية مع الأقلِّيّة المُسْلمة في بلدها.

في إطار لاهوت الأمراض والأوبئة بحسب هذه الجهات، يُعتبر المرض مَحكومًا بالسببية الأخلاقية؛ إذ هو عقاب يُنْزله الله سبحانه وتعالى على العُصاة والمَرَقة الذين تَمرَّدوا على طاعته، حيث تتحول هذه الكوارث والمصائب إلى سُنَّة إلهية سرمديَّة. فهكذا عذَّب الله قوم نوح، وهكذا دمَّر جماعة لوط، وكذلك يفعل الله بنا اليوم بِوَباء الكورونا. ثم إنه ليس بجديدٍ على البشر، أنْ يَعتبروا الشَّرَّ نوعًا من العقاب الإلهي على الذنوب والمَعاصي، التي اقترفوها بحقِّ بعضهم بعضًا أو بحقِّ آلهتهم. فالمَجاعات والأوبئة والجفاف والكوارث الطبيعية من فيضانات وزلازل، ما هي إلَّا تعبيرات عن غضب الآلهة وانتقامها. وقد رافَق هذا التأويلُ مسيرةَ الإنسانية، وساعَدَها على إعطاء معنى لهذه الفوضى، التي تتجاوزها في ظلِّ غياب التفسير السببي والعِلمي.

أمَّا اليوم، فمِن الضروري تَجاوُز هذه التأويلات الدينية التقليدية، التي تُشكِّل حاجزًا، يَحُول دون انخراط الفاعل الديني في السياسات الصحية والإستراتيجيات الطبية والحقائق العلميّة، للوقاية من الكورونا ومُجابهتها. فهي تأويلات تضليلية، تتعارض مع العقل ومع النقل. فإنْ سلَّمْنا بأنَّ الله سبحانه وتعالى عادل، فكيف يمْكننا أنْ نَقْبل عقابه الشامل، الذي لا يُميِّز بين الصالح والطالح، أو بين المارق والمُؤْمن؟ بل ما ذنْبُ الأطفال الأبرياء في إطار هذه السَّرديَّة الانتقامية والعقابية؟

أيضًا هذه التأويلات تَغِيب من جهة مبدأ المسؤولية الفردية: {ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. ومِن جهة أخرى، هي تُشوِّه إنسانية الفرد، وتُجفِّف ضميره الأخلاقي. فهذا المَنطق السَّاديُّ الذي يتلذَّذ بأذى الآخرين وآلامِهم، مُضادٌّ لكلِّ القيم الدينية السَّمْحَة، التي عرَفْناها وتربَّيْنا عليها.

إنَّ إدارة أزمة وباء الكورونا، أبرزَت حاجة الإنسان إلى تغيير أنموذج تفكيره وإدراكه، حيث بيَّنَت أنَّ مشاكل البشرية ليست معزولة ومنفصلة عن بعضها بعضًا بجِدارٍ صِينيّ، بل متداخلة ومتفاعلة. فالفيروس القاتل اجتاح جميع القارَّات، واخترق كلَّ الثقافات والأجناس وكلَّ الطبقات. ولمواجهته، تَكاتفَت الجهود وتكثَّفَت الاتِّصالات، بين العلماء ومَخابر البحث والجامعات في كلِّ البلدان. وتَأكَّد للجميع أنَّ البشرية في تنوُّعها الظاهري، وفي تعدُّدها الطبقي والديني والإثني، هي حقيقة واحدة.

هذه الجائحة فرصة، لإعادة النظر في أنماط تفكيرنا وفي قِيَمنا. وقد آن الأوان لِأَنْ ننتقل من الكمِّ إلى الكيف، ومن التجزئة والاختزالية إلى النظرة الشُّمولية، ومن التنافس إلى التعاون، ومن الأنانيَّة إلى الغَيريّة، ومن الإسراف والاستهلاك الوحشي وتدمير الموارد الطبيعية، إلى التواضع والتناغم مع البيئة والحفاظ عليها.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive