الرجوع

التفكير النقدي في زمن التكفير النقضي

الثلاثاء

م ٢٠١٧/٠٦/٠٦ |

هـ ١٤٣٨/٠٩/١٢

"هل ضرب الشيخ التعددية في مقتل؟ نعم؟ لكنها في واقع الأمر صريعة منذ زمن. لقد أيقظ الشيخ بؤر التفكير التي ماتت سريريًّا، وحرّك مَواطن المواجهة التي انتحرت طواعية. وعلينا أن نستغل الفرصة الذهبية إن أردنا". بهذه الكلمات أنهيتُ مقالاً سابقًا، عما صرح به وكيل وزارة الأوقاف السابق الشيخ سالم عبد الجليل في برنامج تلفزيوني مصري، من أن المسيحيين "أصحاب عقيدة فاسدة".

هذا التصريح قلب دنيا معتنقي التعددية ومحترميها ومحبيها، ولم يقعدها بعد. لكنه أيضًا أسعد قلوب منتهجي الأحادية، والممسكين بتلابيب احتكار الله، والاستئثار بالجنة، وإعلان يوم الحساب منطقة تابعة لهيمنتهم وخاضعة لسيطرتهم. وبين هؤلاء وأولئك، ومِن رحِمِ الصدمة ورغم أنف الفزعة، تلوح بشكل واضح فرص ذهبية.

أحداث الإرهاب المتواترة في المنطقة، والممتدة إلى الكوكب، والتي ترتدي جميعها جلابيب دينية -والدين أي دين منها بريء- فتحت عنوة  باب النقاش. هذا الباب ظل مغلقًا بـ"الضَّبَّة والمفتاح" على مدى قرون. لافتةٌ ضخمةٌ مكتوب عليها "ممنوع الاقتراب أو النقاش أو فك اللوغاريتمات"، ظلت مثبتة عليه. وإمعانًا في إبعاد الغرباء وإرهاب المتطفلين وترويع المغامرين، جرَت كهربة الباب بفولت عالٍ دامٍ.

مؤرخ فريد وجغرافي نادر هو الدكتور جمال حمدان، قال قبل عقود إن الدولة الإسلامية العالمية الواحدة، هي محض هوس ديني محموم جاهل ومعتوه، وإن الإستراتيجية العظمى لأعداء الإسلام، هي استدراجه وتوريطه في صدام وصراع دموي مسلح إن أمكن مع المسيحية، فلم يترحم عليه كثيرون وقت مات موتة غريبة في شقته في الجيزة.

كاتب ومفكر من طراز غير معهود هو الدكتور فرج فودة، تجرأ قبل ما يزيد على عقدين، وتحدث عن الدولة المدنية والتي هي ليست الدولة الكافرة، في مواجهة الدولة الدينية، فقُتِل بدم بارد وسط حمدٍ كثير وتكبيرٍ مثير.

أكاديمي وكاتب ومفكر هو الدكتور نصر حامد أبو زيد، دعا إلى منهج فكري جديد قائم على إعمال العقل، فكفّروه وفرّقوه عن زوجته الأستاذة الجامعية، وذلك بحكم محكمة "لأنه لا يجوز للمرأة المسلمة أن تتزوج من غير المسلم"، فمات بحسرته في منفاه الاختياري.

باحث شاب هو إسلام البحيري، تحدث عن ضرورة مراجعة التراث وتنقيته، فما كان من المحكمة "المدنية" إلا أن حكمت بحبسه سنة، في قضية ازدراء الدين الإسلامي المرفوعة ضده.

القائمة طويلة ومريعة، لكنها في الوقت نفسه تحولت طاقةَ أمل. فعلى مدار الساعة، ورغم أنوف المتجمدين والمتحجرين والمذعورين، تتزايد أعداد الباحثين عن تفسيرات، تدفعهم رغبة محمومة في فهم ما يلحق بالعالم العربي من مصائب متتالية. فكل منها ترتدي حلّة دينية مختلفة اللون والموديل، لكن يظل المحتوى متطابقًا حتى وإن كانت الحُلل متحاربة متناحرة. انفتح باب النقاش الموصد تحت ضغط الطارقين. جهود التنقيب في مياه التراث الراكدة تتجلى ملامحها بوضوح. أضواء متفاوتة القوة، متراوحة المصدر، تتبدّى تدريجيًّا لكن بشكل متصاعد.

صحيح أن نقاشات الشبكة العنكبوتية تنضح برفض للآخر حتى لو كان من ذات الملة ونفس الطائفة، لكن يُصنف تغريده بأنه خارج السرب. إلا أن مساحات التفكير النقدي، وليس التكفير النقضي، تتسع وتكسب أرضيات جديدة. وصحيح أنّ أَثيرَ التلفزيون ينضح هو الآخر بقدر هائل من الترويج للجمود، وإجهاض جهود التحديث والتفكير، إلا أن وجوهًا وأدمغة ومقاربات عديدة بدأت تفرض نفسها، وتصنع جمهورها الراغب أو القادر أو الآمل في التعامل مع الدين، من باب التحبيب لا الترويع، والفهم لا التلقين، والنقاش لا العراك، والاختلاف لا الخلاف.

ومَن كان يتصور أن تشهد جرعات رمضان التلفزيونية أعمالاً تنكش تنظيمًا كـ"داعش"، مرّةً بدراما مثل "غرابيب سود"، وأخرى ببرنامج كوميدي مثل"ميني داعش"، ومرات في العديد من الأعمال المعروضة، حيث شخصية تنتهج نهجًا دينيًّا مزيفًا أو مظهريًّا خالصًا؟! حتى أسلوب تناوُل الآخر في الأعمال الدرامية تطور وتقدم. يبدو أن صنَّاع الدراما استشعروا فداحة الموقف، فتفادوا فجاجة مشهد شيخ وقس يتعانقان، أو مسلم ومسيحي يتصادقان، أو "فاطمة" و"ماريان" تتآلفان. صارت المشاهد أكثر عمقًا وجرأة واعترافًا بأن "كله ليس تمامًا". والاعتراف بالحق الذي هو فضيلة، ومواجهة النفس بما ليس فيها مفخرة، ونسب الفضل إلى أهله مكرمة.

فشكرًا للشيخ عبد الجليل الذي شجع ملايين دون أن يدري، على اقتناص الفرصة الذهبية، وانتهاج تفكير نقديّ هادئ، بديل عن التكفير النقضي الزاعق!

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive