الرجوع

حق الخطأ وتَشكل مفهوم الفرد

الثلاثاء

م ٢٠٢٠/٠٩/٠٨ |

هـ ١٤٤٢/٠١/٢١

“ألينا” بنت ابنتي، تلميذة في الأول الابتدائي، في مدرسة بمدينة ملبورن الأسترالية. تخبرني أمها “أبرار” بصعوبات تفاعلها معها في بدايات توجيهها في الكتابة. أمها تصر على محو أخطائها، وتحذرها من تكرارها. “ألينا” لم تتعلم في المدرسة محو أخطائها، بل لا تكترث للخطأ ولا ترتاب منه، كما تربَّت أمها على ذلك في بلادنا من المرحلة الابتدائية حتى نالت شهادة الماجستير. معلمة “ألينا” الأسترالية من أصل إيطالي، اكتشفت آثار الكلمات الممحوة في تمارينها على الكتابة. فاستنكرت ذلك، وحذرت أمها مما يتركه هذا السلوك من آثار سلبية في تكوينها النفسي والذهني.

سألتني “أبرار” وهي مندهشة من رفض المعلمة، واستهجانها لمحوها أخطاء ابنتها. فقلت لها: أعظم الأخطاء في التربية الحديثة منعُ الأبناء من الوقوع في الخطأ، وإشعارهم -وهم في هذا العمر- أن الخطأ عاهة، وتخويفهم من آثاره الوخيمة فيهم. هذا التخويف يتراكم ويترسب بالتدريج في اللاشعور، فيكبِّل تفكيرهم، ويجعلهم حذرين مترددين قلقين في الإعلان لأي سؤال أو رأي -مهما كان-.

تَنشد العملية التربوية إيقاظ عقل التلميذ، وتحرير وعيه من الأغلال المبكرة، وتحفيزه إلى ابتكار الأسئلة، وطرحها من دون وجل -مهما كانت-، وتنمية قدرته على التفكير في كل شيء. من الخطأ أن ننبِّه “ألينا” على الخطأ، أو نمحوه ونكتب لها الصواب، ومن أسوأ الأخطاء توبيخها على فعله. الطفل مكتشفٌ يَقِظٌ للعالم، يتطلع إلى اكتشاف كل شيء، ينمو ويتسع وعيه بنمو اكتشافاته واتساعها. عندما تكتشف “ألينا” الخطأ، تتحول بالتدريج إلى مكتشفة لحياتها ولما حولها. فتبدأ اكتشافاتها برصد أخطائها الصغيرة، وتتطور خبرتها بالتدريج لرصد الأخطاء الكبيرة. الكائن البشري يتعلم بفعله هو وممارساته هو، لا يتعلم هذا الكائن عندما ينوب عنه غيره بالفعل والممارسة.

مهمة المعلم إيقاظ العقل وتنميته،‏كي يكتشف التلميذ الأخطاء، ‏ويهتدي إلى الصواب بنفسه، ‏لا أن يقتاده كأعمى؛ ‏لأن ذلك ينتهي به إلى سبات عقله، ‌‏وعجزه عن التفكير ‏النقدي، وتعطيل ملكة الإبداع لديه. المعلم الناجح هو من يكتشف نوع موهبة تلميذه، ويحفز الطاقات العقلية والنفسية المختبئة داخله، ويمكنه من بنائها وتنميتها واستثمارها. ‏

كل من يفكر يخطئ، ومن لا يفكر لا يخطئ. ولا يتحرر التفكير من الخطأ إلا بعد وقوع الإنسان فيه. ونرجسية الإنسان وتوهُّم كماله، تدعُوَانِه إلى التنكر لأخطائه. لم تكفل ثقافتنا حق وقوع الكائن البشري في الخطأ، والأسوأ من ذلك أننا نرى بعض الناس، يتعامل مع الخطأ الذي يرتكبه شخص ما وكأنه فضيحة. وربما يتعرض من يقع في الخطأ أحيانًا، للسخرية والتهكم والازدراء. لذلك، يرتبك أكثر الناس في مجتمعنا، ويغمرهم الخجل والشعور بالعجز إن اعترفوا بخطئهم. إن تربية الناشئة على عدم الوقوع في الخطأ خطيئة، وهي أسوأ أشكال تنميط الشخصية، الذي يميت منابع الإبداع. فيصير الكائن البشري كأنه ممثل على مسرح، تختفي ملامح شخصيته الحقيقية. أما المعلم الناجح، فيوقظ إرادة التلميذ وثقته بنفسه، كي يتصرف كما هو، ويحميه من ممارسة الخداع، أو إخفاء شخصيته بأقنعة جاهزة زائفة.

من يمتلك شجاعة الاعتراف بالخطأ، يمتلك القدرة على تغيير ذاته والتكامل. الخوف من التغيير، خوف من الاعتراف بالخطأ. لا تنجز التربية أو التعليم وعودها، إلا بمنح الحرية في ارتكاب الأخطاء. فحرية ارتكاب الخطأ ضرورة للتعلم، ومن لا يرتكب أخطاء لا يتعلم. فحق الوقوع في الخطأ ركيزة أساسية، تقوم عليها التعددية وقبول التنوع والاختلاف، وترسيخ التفكير الحر. عندما نسلب هذا الحق من الكائن البشري، يتحول المجتمع إلى كائنات متماثلة متطابقة، تفتقر إلى كل ملامحها الشخصية المتنوعة والمختلفة، وتختفي صورة الفرد في مثل هذا المجتمع، ويصير الناس كأنهم روبوتات متشابهة، وهذا ما تفعله وتتأسس عليه كل الأنظمة الشمولية المستبدة.

لا معنى لمجتمع تعددي متنوع من دون بناء مفهوم راسخ للفرد، ولا معنى لمفهوم الفرد من دون ترسيخ مفهوم الاختلاف، ولا معنى لمفهوم الاختلاف من دون حق الفرد في الوقوع في الخطأ. إن التربية لدينا في العائلة والمدرسة والمجتمع، قلما تتفهم حق الوقوع في الخطأ وتتقبله. وهكذا حالُ التربية والتعليم في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا بمختلف مراحلها وأنواعها. كل فلسفة تربوية وتعليمية لا تعتمد حق الوقوع في الخطأ، باعتباره أحد ركائزها؛ تولد ميتة.

لا يسود الحقُّ في الخطأ تربيتَنا، مع أن الإسلام والأديان في بلادنا يشددون على الغفران والتوبة والعفو، ويغتنون بمفاهيم مماثلة للتسامح مع الخطأ، حسب ما نقرأ في القرآن الكريم والكتب المقدسة. يستعرض القصص القرآني أخطاء الأفراد والمجتمعات المتنوعة، ولا يهمل حتى الصغيرة منها، عندما تتضمن عبرة، أو تَشِي بخبرة هادية. كذلك يتحدث القرآن الكريم بالمغفرة والتوبة والعفو، حيث وردت كلمة المغفرة ومشتقاتها 234 مرة في القرآن، وكلمة التوبة ومشتقاتها 87 مرة، وكلمة العفو ومشتقاتها 27 مرة.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive