الرجوع

الثورة نسويّة

الثلاثاء

م ٢٠١٩/١٢/١٧ |

هـ ١٤٤١/٠٤/٢٠

إنَّها تُمْطر، وتُمطر. وأنا أَجلسُ مُراقِبةً السَّماء بِسُيولها الَّتي تُرسلها إلينا، وأفكّر كم تستفزُّني عبارة "الثَّورة أنثى"، في السَّنوات الماضية. كنتُ أراها كواحدة من العبارات الأخرى، الَّتي تُلقَى إلينا -نحنُ النِّساء- لِنَشعر بالتَّقدير. لكنّها بقيَت مجرّد عبارات رنَّانة، إلى أن واكبْتُ الثَّورة في لبنان، واستطعتُ أوّل مرّة أن أقرأ هذه العبارة من زاوية أخرى. فالثَّورة قد تكُون أنثى فعلًا، لأنّ النِّظام الأَبَويّ يستهدفها، بنفس الطَّريقة الَّتي يَستهدف فيها أيّ أنثى أخرى.

أكرَهُ معظم تلك العبارات الَّتي تتغنّى بالأنثى، من مبدأ "طَعْمِي التِّمّ بتِستِحي العَين". لكن، وبعد مواكبة الثَّورة في لبنان، تَخَيَّلتُ أنَّ الثَّورة أنثى فِعلًا، لأنّها تُضطهَد من نظام الدَّولة الأَبَويّ، الّذي يحاول إخضاعها وتسييرها كما يشاء، مثلما تُخضَع المرأة الشرقية في بلادنا.

"هممم"! ربَّما كنتُ أُفضّل عوضًا عنها عبارة: "الثَّورة نِسويّة"، لتكون أشمل!

مع ذلك، أُفكِّر: "هل يصحّ القول بأنّ النِّظام أَبَويّ، والثَّورة نِسويّة؟". إنَّنا إنْ أهملْنا كلاسيكيَّات العنف المباشر، وتَوقَّفنا عند فكرة واحدة أصَرّت السُّلطة في لبنان -بشكلٍ خاصٍّ- على المطالَبة بها (البحث عن قائدٍ لِلثَّورة)؛ فإنّه قد يمْكننا القول: إنّ الأَبَويّة هي خطاب السُّلطة، الَّتي ما زالت تَعجز -حتّى هذه اللَّحظة- عن فهم مَطالب هذه الثَّورة، حتّى ولو شكليًّا. فهي ما زالت -حتّى اليوم وفي آخِر صيغة تشكيلٍ حكوميّ لها- تعتقد أنّ مَقاعِدَ حكوميّة لِلحَراك، قد تَفِي بالغرض.

النِّظام الَّذي يَطلبُ من الثَّورة ممثِّلين عنها، أو قادةً  لها أو مموِّلين، يقول بصيغة أو بأخرى: إنَّ الاعتراف بالثَّورة يكُون، عندما تَمتلك العواملَ الَّتي بدورها تَفرضُ أبَويَّتها الهرميّة. فأهْلُ النِّظام يبحثُون عن الرَّجل الَّذي يشبههم، والَّذي يفهم لغة القادة، ولديه أتباعٌ يتحكّم في آرائهم، ويستطيعُ السَّيطرة عليهم إذا ما جرى الاتِّفاق معهُ. رجُلٌ مِثلهم، ومِن ثَمَّ يمْكن التَّفاوض معه وإرضاؤُه. لكنّهم يَعجزون عن فهم فكرة أنّ هذا الرَّجل غير موجود، وأنّهُ قد يكُون امرأةً أو طفلًا أو عجوزًا أو متحوّلًا(ة) جنسيًّا أو مِثليًّا(ة)، أو أنَّه كلّ المختلفين والمهمَّشين الَّذين لا يُشبهون قادة النِّظام الحاليّ.

الأنظمة الأَبَويّة عادةً ما تُحبّ "الكوتا" بأفضل أحوالها، وتكتفي بها. نساء يُفَعِّلْنَ الأبَويّة، سَواءٌ من خلال ممارستهنّ المباشرة، أو من خلال منْعِهنّ من أن يَكُنّ فاعلاتٍ. "كوتا" تُحقِّق على الورق الاختلافَ المطلوب بحدّه الأدنى، وتشعرُ بالتَّهديد عندما يخرج ذلك الاختلاف عن سيطرتها ورغباتها.

يَصدُرون قوانين التَّظاهر الاجتماعيّة، وقوانين المطالَبة بالحقوق. هذا يصحّ وهذا لا يصحّ، هذا مناسب وهذا غير مناسب، هذا عيب وذاكَ غير مقبول. وكم تُشْبه عقليّةُ هذا الخطاب مع الثَّورة، كلَّ تلك العبارات الَّتي كُنتُ أسمَعُها في بداية مراهقتي. "لا تسبّي، بتِطْلَعي مِتل ولاد الشَّوارع، لا تِسْمَنِي بِبَطّل حدا يتطلّع عليك، لا تلبسي مفتوح، ولا كتير تلبسي مسكّر، لا تتركي شعر شواربك يطول، البنت ما إلها غير سمعتها... إلخ". ففي حين كنتُ أحاولُ اكتشاف كلّ تلك التَّغييرات في جسدي، كان هذا النِّظام الأبويّ يربطني إلى أعمدته الَّتي تُبقيه صامدًا، كما تَفعل الأنظمة الأبَويّة اليوم مع الثَّورات.

لَرُبَّما يُفسَّر ذلك الهجوم على نساء الثَّورة، بنفس تلك الأساليب. فمثلًا: افتعال قصّة رأيٍ عامٍّ حول وجود راقصة في ساحات التَّظاهر، والسُّخريَّة ممَّا تَلبسهُ بعض المتظاهرات، والهجوم على مَظاهر الفرح في السَّاحات، والتَّعامل مع مَطالِب الحَراك على أنّها غير جِدِّيّة، والمهاجمة للعنصر النِّسائيّ بشكلٍ أساسيّ، سواءٌ راقصاتٍ كُنَّ أو قائدات أو ناشطات أو مذيعات، أو حتّى بائعات كعك في ساحات التظاهر، أو غيرهنّ؛ كلُّ ذلك كان مِن أشدّ الهجوم وأكثر الفضائح والتلفيق والاستهداف، الّذي صُبّ على نساء هذه الثَّورة. وربَّما لأنّ ذلك الجَمال كلّه، يستفزّ فولاذيّة الأبَويّة. فهو يَخلقُ البديل الملوّن لفولاذها الرَّماديّ القاتم.

في بداية مرحلة الشَّباب، كان يقال لي أحيانًا: "إذا لبِسْتِي شِي قصير، بتُعتبر دعوة للمتحرّش". وما أشبَهَ تلك العبارة بـ"إذا بِتْسبّوا شِي زعيم، بتستفزّوا مؤيدينه وبيضربوكم". فجأة، يُغضّ كلّ البصر عمَّا يقُومُ به ذلك المتحرّش أو ذلك الزعيم، من أذًى وعنف مباشِرَين، ويقع كلّ اللَّوم على مَن يمارسون حقَّهم في الاختلاف.

منذُ سمِعتُهُ أوّل مرّة، في واحدة من مظاهرات يوم المرأة العالميّ منذ سنوات، وهو يُثيرُ اهتمامي، وأَتَوقَّفُ عندهُ في كلّ مرّةٍ. إنَّه الهتاف الَّذي أجِدهُ الأجمل: "بَدْنا نرقص، بَدْنا نغنّي، وبَدْنا نسَقّط النِّظام". هكذا وبهذه البساطة!

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive