الرجوع

لا فطام عن الحرية ولا نهاية لحلم الديمقراطية

الإثنين

م ٢٠١٩/٠٣/١٨ |

هـ ١٤٤٠/٠٧/١٢

تَصوّر بعضهم أن الانتكاسات التي تَعرَّض لها "الربيع العربي" في العديد من الأقطار، تُمثّل نهاية المشوار. فبدا "النظام العربي" القديم، وكأنه يتعافى، مُسوِّقًا لنفسه من جديد؛ باعتباره الرادع الأخير ضد الإرهاب والفوضى. أمام هذا الكابوس المزمن، الذي يُشِيع اليأس في شريحة واسعة من الشباب، تُكذِّب المظاهراتُ السِّلميَّة في السودان والجزائر هذا السيناريو المتشائم. فلا شيء يقف أمام العطش إلى الحرية والديمقراطية والمواطَنة الكاملة، على الرَّغم من كلِّ المُثبِّطات والانتكاسات.

ما يجمع بين السودان والجزائر، مَطلب شعبي بسيط، هو احترام الدُّستور والإرادة الشعبية، ورفضُ التجديد اللانهائي لرئيس يَحكم عقودًا. إنها رغبة في حياة سياسية طبيعية، وتَداوُلٌ سِلميّ للسلطة عبر الإرادة الشعبية الحرة، من دون كواليس خفية، ولا قوًى تَرى ولا تُرى، ومن دون ديمقراطيات شكلية مُفرَغة من محتواها الحقيقي.

البَلَدان غنيَّانِ بالثروة "الشبابية" الخلّاقة، وبالخيرات الطبيعية الخلّابة. فهُما من أكبر الدول الإفريقية مساحةً، وأغناها ثروةً، ولا يحتاجان إلَّا إلى حُكم رشيد، يُحْسن الاستثمار في تلك الثروات، ويحقّق العدالة والازدهار للجميع. هذا الهدر للطاقات، بات يهدّد مستقبل الأجيال الحاليَّة والقادمة. فالبلاد تسَعُ الجميع، ويمكن أن يعيش فيها الشعب بكلِّ ألوان طيفه في أحسن حال؛ لو أُتيحَ له أن يختار مَن يقوده، وينتقده ويعزله إن اقتضى الحال، وفقًا لأحكام دستور يحترمه الجميع، ولا يُفصَّل على مقاس أحد.

الربيع العربي هو في الحقيقة مَسار طويل، انطلق ولن يوقفه أحد، لا النظام القديم، ولا الإرهابيون الذين -مِن حيث يعلمون أو لا يعلمون- يؤكّدون ما يَنفون ويحاربون. ويبقى التحدِّيَ الأكبر، هو كيفية الحصول على نتائج حقيقية، من دون الانزلاق نحو العنف، أو الارتهان بالنظام القديم والقوى الدولية والجِهَوِيّة.

تُعلّمنا تجارب السنوات الأخيرة، أن مِن أهمِّ الفجوات في الثورات العربية، غياب الأُطر الحزبية القادرة على بلْوَرة مشروع سياسي، وخوض الانتخابات، وتَولِّي مسؤولية التغيير الفعلي. وفي حال غياب القيادات الشبابية، يجري اللجوء إلى الأحزاب القديمة، أو ما كان ضِمن المنظومة القديمة منها، حتى تُعيد إنتاج نفسها بِاسْم الشعارات الديمقراطية، وتتمكن من كسب الوقت والعودة للمواقع السابقة؛ أو يجري اللجوء إلى أحزاب المعارضة، التي كان أعضاؤها في السجون والمَنافي. وفي كِلْتا الحالتين، نحن أمام جيل قديم، غير قادر على تَصوُّر أحلام الجيل الجديد وتحقيقها. فهذا الصراع السياسي في وجه من وجوهه، هو صراع أجيال.

تُمثّل هذه المظاهرات السِّلميّة، أوَّل مشاركة للشباب في الحياة السياسية. إنها شهادة ميلاد المواطن. ولذلك فرحةٌ لا توصف، وإحساس غامر وجميل بالعِزَّة والكرامة والحرية والتضامن والوَحْدة. وهي في الوقت نفسه أوَّل عملية تدريب، والنواة لِمَا يمكن أن يتحوّل إلى أحزاب سياسية جديدة. أنا لا أؤمن بالزعيم المنقذ، بل أؤمن بقيادات شبابية عديدة ومتنوعة، قادرة على التعاون فيما بينها، وعلى تمثيل المجتمع. فعدمُ وجود حزب معيَّن أو قيادة محدَّدة للحَراك الشعبي، قد يكون نقطة قوة في البداية، لأنه يمثِّل عنصر المفاجأة، الذي لا تَعرف السلطة القائمة كيف تتعامل معه، لعدم وجود جهة محدَّدة تواجهها. ولكن، سرعان ما تتحول نقطةُ القوة هذه إلى نقطة ضعف، عندما يحين موعد العمل السياسي الحقيقي والقرارات الكبرى.

التحدي الآخر الذي يواجهه الحَراك، هو الإبقاء على وحدة الشعب، مع وجود التنوع الداخلي الكبير. وهنا، تَبرز عبقرية طرح الأهداف الجامعة، التي تُوَحّد ولا تُفرّق. فيتطلب الأمر ذكاء الوعي باللحظة التاريخية وأولوياتها. ولعلّ ميزة الجزائر اليوم، أن الأحزاب الإسلامية فيها قد فقدت قوَّتها وشعبيَّتها، لأن جزءًا منها تَحالف مع السلطة الحاكمة منذ سنوات عديدة، والجزء الآخر تَورَّط في الإرهاب في العشرية السوداء. فهذا يعني مزيدًا من التنوّع السياسي، وغلبة الخطاب المدني التعدُّدي. أمّا الإقصائية أو عدم تحمّل المختلِف، فهو داءٌ خطير لا بد من التخلص منه في جذر المعارضة، وإلّا فإنها سرعان ما تُعيد إنتاج ما تريد أن تُزيله، بمجرد صعودها إلى الحكم.

أيضًا ينبغي الحذر من المندسِّين الذين قد يُزايدون في الشِّعارات، وقد يَلجَؤُون إلى العنف لِشقِّ الصفوف، وتشويه الطبيعة السِّلميّة والحضارية للحَراك. تبقى المعادلة الصعبة: "كيف يمكن تحقيق أعلى سقف من التغيير، من دون سقوط ضحية واحدة، لا من المدنيِّين ولا من الشرطة؟". هذا الأمر يمكن أن يتحقق، إذا تَحوَّل اللاعنف إلى عقيدة راسخة، وإستراتيجية ثابتة للتغيير، عِلمًا أن العنف قد جُرّب، وباءَ بالفشل الذريع، ولا يمكن عقلًا تَكرار التجربة.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive