الرجوع

الحاجة إلى التَّصوُّف

الخميس

م ٢٠١٩/١٢/١٩ |

هـ ١٤٤١/٠٤/٢٢

التَّصوُّف تيَّار واسع ظَهر منذ وقت مبكر في الإسلام، ولِسَعَتِه وكَونِه تجربة فرديَّةً باطنيَّة، فقد تباينَت طُرق النَّظرة إليه. وفي الإمكان أن أضَعَ هنا مقارَبةً تعريفيَّةً له، وهي أنَّه اتِّصال بين الإنسان وخالقه عبْرَ تجريد النَّفس من أكدارها. ولذلك، هو حالة إنسانيَّة عامَّة، تَرجع –بنظري– إلى الرُّوح الَّتي نفخها الله في البشر.

مع كَون التَّصوُّف بهذا المعنى تجربةً باطنيَّة، إلَّا أنَّه يتمَظْهر في السُّلوك الظَّاهريِّ. وبهذا، أصبَح له مَسالك وطُرق، تلوَّنَت بِلَون المجتمع الَّذي تُوجد فيه، متأثِّرةً بدِينه وثقافته. والتَّصوُّف في الإسلام أخذ طبيعة البيئة الحاضنة له، مُنطلِقًا من الثَّقافة الإسلاميَّة، ومتأثِّرًا بالثَّقافات المجاورة، كالمسيحيَّة الغربيَّة، والمجوسيَّة الإيرانيَّة، والهندوسيَّة الهنديَّة.

لقد دخل التَّصوُّف خلال أطواره في تَشابُك مع الفقه والسِّياسة والمجتمع، وتَعرَّض للقبول والتَّأييد، والرَّفض والتَّفنيد، وكانت له مَدارس عبْر تاريخه. ففي حقبته الأولى نشأ على أساس الزُّهد وتهذيب النَّفس، ثمَّ تَحوَّل إلى طُرق تأثَّرَت بالثَّقافات الأخرى. فتَلبَّس بالشَّطح والتَّأويلات الباطنيَّة، الَّتي حاولَت أن تستجلي الحقيقة، متجاوزةً ظاهر نصوص الشَّريعة. وبسبب ذلك، تَعرَّض بعضُ المتصوِّفة للاضطهاد -بل وللقتل-، ثمَّ اعتَنق التَّصوُّفُ البُعدَ الفلسفيَّ. فقال بعضهم بالحلول والاتِّحاد، والفناء والبقاء، ثمَّ تَحوَّل إلى حركات اجتماعيَّة وسياسيَّة، تارةً تقف مع الدَّولة، وتارةً تُعارضها.

على طُول التَّاريخ الإسلاميِّ، لم يَخْبُ نجمُ التَّصوُّف، وكان يُشعُّ بحسب لون البيئة الَّتي يَبزُغ فيها. ولكن، مع هذه التَّحوُّلات الَّتي تَشهدها بُنْية الاجتماع البشريِّ عمومًا، ومع تَفكُّك المنظومات المعرفيَّة والسِّياسيَّة القديمة، وقيام منظومات أخرى تَعمل على تشكيل هياكل اجتماعية جديدة؛ هل يَظلُّ التَّصوُّف قائمًا؟ وهل يكُون له نفس الأدوار القديمة؟

في ظلِّ التَّحوُّل المعرفيِّ، الَّذي يعمل على تغيير الرُّؤى الفكريَّة، والَّذي سيطُول الرُّؤيةَ الدِّينيَّة والمذهبيَّة، فإنَّ التَّصوُّف لن يكُون بِمَنجاة من هذا التَّغيير، ولن يصبح بديلًا عن الإسلام السِّياسيِّ الآخذ في الأُفول، ولا عن السَّلفيَّة الَّتي تتقهقر في عُقْر دارها؛ وذلك لأنَّ الرُّؤية الحزبيَّة بمَرجِعيَّتها المذهبيَّة، هي من الأساس لم تَعُدْ مقبولة في هذا العصر، الَّذي يُغلِّب الجانبَ الإنسانيَّ على غيره. ثمَّ إنَّ المعتقدات أصبحت تتعرَّض للنَّقد العميق والتَّفكيك المستمرّ، بُغْية التَّحوُّل نحو رؤية أكثر واقعيَّةً وأرْحبَ حرِّيَّةً للفرد. ولذلك، فإنَّ التَّصوُّف بأدواته القديمة من الطُرُقيَّة، لن تكُون له حُظوة مستقبليَّة، وإنْ أخذ تَلاشيهِ زمنًا حتَّى تَحلَّ محلَّه "نُظُمٌ روحيَّة" جديدة، قادرة على نَظْمِ الاجتماع البشريِّ دينيًّا.

مع ذلك، سيَظلُّ التَّصوُّف قائمًا في النَّفس الإنسانيَّة على المستوى الفرديِّ، للدَّواعي الآتية:

- الرَّغبة الوُجوديَّة للنَّفس البشريَّة في الاتِّصال بالمُطلق. ولا يُشبِع هذه الرَّغبةَ إلَّا الاتِّصالُ بالله ومناجاتُه. وهي رغبة لا تنتهي، ولا تَحُدُّها حدود زمنيَّة؛ إذ هي قائمةٌ ما بقي الإنسان.

- في كلِّ العصور، شكّلَت الحياةُ المادِّيَّة انعكاسًا مُقلقًا للنَّفس. ولذلك، يَلجأ الإنسان إلى التَّصوُّف لكي يَلُوذ بحالة من الزُّهد والتَّأمُّل، تُبْعده عن ضَوضاء المادَّة وصَخبِ الحياة. وهذا الزَّمن من أكثر الأزمنة صَخبًا، حتَّى لَيَكادُ الإنسان يتحوَّل إلى "آلة مُعَولمة".

- المنعطَفات الكبرى الَّتي يشهدها البشر، كانت دائمًا مَدعاةً لانتشار التَّصوُّف. ونحنُ الآن مُقبِلون على عصرٍ مختلف جدًّا عن العصور السَّابقة، حتَّى يمْكن القول بأنَّنا الآن ننسلخ من العصور القديمة، ونَدخل في العصر الحديث. وهو ما يستدعي بِشدَّة حضورًا صُوفيًّا، لِتُواكِب النَّفسُ الإنسانيَّةُ هذا التَّحوُّلَ الهائل.

- حالة التَّشظِّي المعرفيّ الَّتي أوجدَتْها شبكة المعلومات العالميَّة بكافة نَوافذها، لا سيَّما الحالة الدِّينيَّة، الَّتي تتعرَّض لِنقد وتفكيك لم يُسبَق إليهما من قَبل بهذه الكثافة، أدَّت إلى "تَشظٍّ عميق" في النَّفس. وهو ما سيُلجِئ الإنسانَ إلى حالة صُوفيَّة تُرمِّم هذا التَّشظِّي، وتُعالجه بالاتِّصال باللَّه.

- انكشاف جمود المذاهب الدِّينيَّة، والتَّحوُّل من "الطُّقوس الجماعيَّة" لِلدِّين الَّتي تشهدها هذه المرحلة، إلى "الإيمان الفرديّ"، يُذْكي شغف النَّفس بالتَّصوُّف، لِكَونه بأصله تجربةً باطنيّة فرديَّة.

- فشَلُ الفلسفات القائمة في التَّعاطي مع تَحوُّلات النَّفس المعاصرة، يُجبر الإنسان على الدُّخول في حالة خاصَّة من التَّأمُّل الوُجوديِّ، أيْ أنَّه سيعيش حالةً رؤيَويَّة داخليَّة، تُعوِّضه عن فشل المنظومات الدِّينيَّة والفلسفيَّة الَّتي مُنِيَ بها هذا العصرُ.

كلُّ هذا –وأكثر–، يجعل التَّصوُّف حالة دائمة للإنسان. ولكن، على المستوى الفرديِّ فحسْب، دون حُضورٍ طُقوسيٍّ جمْعيّ يُذْكَر.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive