الرجوع

الحب معلمٌ صعبٌ لكنه عظيم

الخميس

م ٢٠٢٠/٠٤/٣٠ |

هـ ١٤٤١/٠٩/٠٨

لا مُنتَجَ للمعنى في الحياة أجمل من الحُبّ، ولا طاقةَ أغنى من الحُبّ تُلهمنا إرادةَ الحياة، ولا مُعلّمَ أجملَ من الحُبّ يعلّمنا كيفيةَ العيش. الحُبُّ مُعلّمٌ صعبٌ لكنه عظيم. الحُبّ مِن أشدِّ اختبارات المرء في الأرض، وأغناها عطاءً. الحُبّ تعبيرٌ عميق عن أشواق الروح البشرية، وتَطلُّعها إلى الاتحاد بالآخر.

الإنسان كائن مسكون بطلب الحُبّ. حين يتذوق الإنسان نكهةَ الحُبّ، يرى كلَّ شيء كأنه مخلوقٌ من جمال. الحُبّ مَصدر الوعي الجمالي في حياة الكائن البشري، وهو ما يُصيّر كلَّ شيء في الوجود جميلًا. الحُبّ يلوّن الحياةَ بأجمل معانيها، ويُخرج للإنسان أجملَ صورها المكتنَزة. الحُبّ أحدُ أثرى منابع الأمل والتفاؤل والثقة بالغد. والثقة بالغد ضرورة لتَواصُل إنتاج الحياة لأجمل معانيها. يَحْيا القلب بالحُبّ، كما تَحْيا السمكة بالماء. الحُبّ الذي يرتوي باللقاءِ ليس حُبًّا، والقلبُ الذي تَذبلُ فيه أزهارُ الحُبّ ليس قلبًا.

كلَّما اشتدّ الحُبّ اشتدّت رغبة الإنسان في الحياة، وكلَّما نَضَب الحُبّ نضبت رغبة الإنسان في الحياة. الحُبّ يساعد الإنسان على التغلب على قلقِ الموتِ، والحُبّ يمْكن أن يكون إكسيرًا للحياة. فيموت الإنسانُ داخلَ الإنسانِ، لحظةَ يموت الحُبُّ في الأرض.

الظمأ البشري إلى المحبّة، حاجة لا تتوقف ولا تنتهي. لحظةَ يفتقد الكائنُ البشري الحُبّ، تفتقد حياتُه معناها الآسِر، إذ فقدان الحُبّ في حياة إنسان عاطفيٍّ مُرهَف الحسّ، يقوده إلى الحزن والتشاؤم والاكتئاب، وأحيانًا يكون أحد أسباب الانتحار.

الحُبّ والشفقة على خلق الله، عُصارَتَا الجوهر الروحاني الإنساني للأديان. يقول مُحيي الدين بن عربي: "واعلَمْ أن الشفقةَ على عِبَادِ الله أحقُّ بالرعايةِ من الغَيرةِ في اللهِ". لا يمْكن أن تُنجِز الأديانُ وُعودَها، وتتحول إلى طاقة مُلهِمة للخير والعدل والسلام والرحمة والمحبة والجمال، من دون اكتشاف ذلك الجوهر الروحاني الأخلاقي المشترك، المختبئ وراء رُكام الصراعات اللاهوتية، والتفسيرات الفاشية للنصوص الدينية.

الخوف من الوحدة، والحاجة إلى الاحتماء بالآخر، وخفض قلق الموت، عَوامل تقُود الكائن البشري إلى الوقوع في الحُبّ. يقول باسكال: "كلُّ مَشاكل البشرية، تَنبع من عدم قدرة الإنسان على الجلوس وحده في غرفته بهدوء". وأيضًا حاجة الكائن البشري إلى الاعتراف، تدعوه إلى كسب ثقة الناس. وأيْسَرُ ما يُكسِبك الثقة بأيِّ إنسان، حُبّك له. فالحُبّ يضيء الحياة بمعناها الأجمل، ويبدّد وحشة الكائن البشري وغربته فيها.

الحُبّ الأصيل في أبهى تجلِّيَاته حالة أنطولوجية، تتحقّق بها الذات وتتكامل، بمعنى أنه حُدوثُ طَور وُجوديّ تسمو به الكينونة البشرية، فتتمكّن من التخلص من اغترابها الوجودي، حسب ما سنشير إلى ذلك في حُبّ الله.

الإنسانُ بطبيعته يسعى لاحتكار الحُبّ، ويحاول أن يَفرض على حبيبه ألَّا يُحِبّ أحدًا في العالَم سواه، غيْرَ أنَّ الحرص على احتكار الحُبّ يُفسِد الحُبّ، وإنْ تَمادى هذا الحرص واشتدّ، يتحوّل إلى غَيْرة مَرَضيَّة، تُبدّد الحُبّ وتُنهك روح الحبيب.

تجربة الحُبّ أثرى تجربةٍ عاطفية وروحية يعيشها الكائن البشري، وأبدعُ قصيدة أشواق تتدفق من قلب هذا الكائن. الكلّ يسعى إليها، ويحاول تَعلُّمَها، ويسعي للتَّشبُّث بها، كي يتمثّلها ويمتلكها. الإنسان الأصيل حُبُّه أصيل، وحين يكتب قصيدة حُبِّه يعيشها، ويُدمن عليها ويتسامى بها، ولن تتبدّد أو تَهرب أو تضيع لحظةَ يمتلكها. إنَّ أكثر البشر يكتبونها فتضيع، ثم يكتبونها فتضيع، لأنَّ تَحوُّل الحُبّ من كلمة إلى حالة يعيشها الإنسان، تتظافر في إنتاجها مجموعة استعدادات ذاتية ومكتسَبة، ربما يتعذَّر الظفر بكلِّ عناصرها، لأنها تتطلب روحًا نقيّة، ومشاعرَ صافية، ورؤية متفائلة للعالَم. الحُبّ بوصفه حالة، يظلُّ يُطارد تَكوُّنَه، وتُجْهضه العواملُ المضادّة المتفشِّيَة في الحياة البشرية. وهي عوامل متنوعة، تُنتِج التعصب والكراهية والعنف والشر في حياة البشر.

مع أنَّ الحُبّ أثمنُ معاني الحياة الإنسانية وأسماها، فإنَّه شحيح في حياتنا، إذ قَلَّما يَحضر في ثقافتنا وكتاباتنا وفنوننا وآدابنا وأحاديثا ونقاشاتنا، أو في وسائل إعلامنا ومنابرنا ومواعظنا الدينية وتَديُّننا. إنتاج الحُبّ، أصعبُ أشكال إنتاج المعنى في حياة الإنسان. فمَن يمنحك الحُبّ يمنحك أجمل معنى في الحياة، ومَن يسلبك الحُبّ يسلبك أجمل معنى في الحياة. الحُبّ معيار لاختبار إنسانية الإنسان، وعلامة دالَّة على حضور القيم وفاعليتها في ضميره ومواقفه. إنه ثمرةٌ طيِّبة عبِقَة، لا تتجلى إلّا في شخصية مضيئة مشرقة: "مِن ثمارهم تعرفونهم. هل يجتنون من الشّوكِ عنبًا، أو من الحسَكِ تينًا؟" (متى 7: 16).

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive