الرجوع

الحظر الرقمي أخلاقيًا

الثلاثاء

م ٢٠٢٠/٠٥/٢٦ |

هـ ١٤٤١/١٠/٠٤

مصطلح “الأخلاق الافتراضية”، مع ظهوره في العالم الافتراضي منذ حوالي عقد من الزمن وربما أكثر، فإنَّ تَداوُله -خاصة في اللغة العربية- لا يزال قليلًا، ولم تَقُم حول دلالاته ومفهومه دراسات فلسفية، أو تَداوُلات فكرية معتبَرة، تضع له مقارَباته الإنسانية. ولذلك، أدعو إلى إثارته معرفيًّا، لِيَدفع بتفكيرنا نحو ساحة أكثر اتساعًا (معرفيًّا والْتِزامًا أخلاقيًّا).

برؤيتي، الخُلُق هو أمرٌ راسخ في النفس الإنسانية، يُستحسَن منه الفاضل، ويُستقبَح الرذيل، ولو لم يُمارَس اجتماعيًّا. وهو بِلُغة الدِّين نابع من النَّفخة الإلهية في النفس. بَيْد أنَّ الخُلُق لا يَظهر في الواقع إلَّا بالممارسة الاجتماعية، التي تَحمل الإنسانَ على الاستمساك به، أو تَصْرفه إلى التَّخلِّي عنه. هذه الرؤية، علينا أن نستحضرها ونحن نَطرق باب “الأخلاق الافتراضية”.

أقصِد بالخُلُق الافتراضي هو تَعامُل الإنسان مع أخيه الإنسان، عن طريق استعمال نَوافذ التواصل الرقمية بشتَّى أنواعها: كالتّويتر والفيسبوك والواتساب، وسواءٌ أمَكتُوبًا كان هذا التواصل أمْ مسموعًا أم مرئيًّا، أمْ كان مُنشَأً بالأصالة أو منقولًا عن الآخرين. فإنْ كان هذا التعامل يسُوده مثلًا: التفاهم والاحترام والحوار الهادف، أو إرسال معلومة إلى مَن يحتاج إليها، فهذا خُلُقٌ فاضل؛ وإنْ كان التعامل يبتغي استفزازَ طرَف أو تجريحَه أو ابتزازه أو تضليله، فهذا خُلُق سيِّئ، ينبغي للإنسان أن يترفَّع عنه.

قضايا “الأخلاق الافتراضية” كثيرة، منها ما يَمسُّ جوهر الموضوع، كالمحتوى الذي يقدِّمه الإنسان، أو الجهة التي يبعث إليها. ويقابله الطرف الآخر الذي يتسلَّم المحتوى، من حيث كيفية فهمه له، والمادة أو الطريقة التي يردّ بها. وأيضًا هناك الشكل الذي يُقدَّم به المحتوى، وما يتضمَّنه من علامات ومؤثِّرات. ثم هناك آليَّة التَّحكُّم في نافذة التواصل، سواءٌ بِيَد المُرسَل كانت (كما في التويتر)، أو بِيَد مسؤول المجموعة (كما في الواتساب). كلُّ ذلك -ما دام أنه يُتداول بين الأطراف-، فالأخلاق يجب أن تكُون مصاحِبةً له؛ ليس لِكَونها ضرورةً حتى تستقيم قنوات التواصل فحسْب، وإنما لِكَونها أيضًا أمرًا نابعًا من الشخص ذاته، ويُفتَرض فيه ألَّا يخالف فِعلُه الاجتماعي تكوينَه النفسي.

تتمتع نوافذ التواصل الاجتماعي غالبًا بخاصِّيَّة الحظر؛ أيْ بإمكانيَّة قيام المُتلقِّي بِمنع أيِّ شخص لا يريده، مِن مشاركته في صفحته، أو التواصل معه عبر حسابه، مثلما في التويتر والواتساب. وخاصية الحظر هذه، أثارت بعض النقاشات بين مؤيِّدٍ استعمالَها في أيِّ وقت ورافضٍ لها في كلِّ الأحوال، وفيما بينهما تقع العديد من المواقف. ولو نظرنا بتمعُّن إلى خاصية الحظر، لوجدناها تُمثّل قيمةً تَحوي عناصر أخلاقية عديدة، كثيرًا ما تجعل الإنسانَ يُوازن بينها، أو تكُون -في بعض الأحيان- صِمَامًا يَقِيهِ من الانزلاق في تصرُّفات سيِّئة، وربما تَجعله يُراجع أسلوبه. فيَعُود لأداءٍ أفضلَ بعد رفع الحظر، إنْ كان مؤقَّتًا.

الحظر بالأساس ينتمي إلى مبدأ الحرية، وليس إلى الاستبداد. فالحرية أوَّلُ القيم في هذه الخاصية؛ إذ الشخص يرى في استعماله للحظر ممارَسةً لحريته. وهذا منطقيٌّ، ما دام لا يَسبق الحظرَ “فِعلٌ انتقاميّ” تجاه الطرف الآخر، فيَمنع الأخيرَ من الردِّ عن نفسه، وأيضًا ما دام أنَّ هذه الخاصِّيَّة لا تَمنح مستَعمِلَها حَجْب الموادِّ المتداوَلة بين الآخرين والتفاعل بينهم. ففي هذه الحدود، هو/هي يمارس حريته، ولا يمْكن أن يُعترض عليه أخلاقيًّا، لأنه استَعمل الحظر بدون مُسوِّغ يراه المحظور.

إضافةً إلى ذلك، قد يَحظر الإنسانُ شخصًا يَظهر له أنَّ طرْحَه يؤذيه، نفسيًّا أو اجتماعيًّا أو دينيًّا أو غير ذلك. لا يمْكن أن أمتَنِع عن تقديم طرحي لأنَّ هذا أو ذاك يستاء منه، ما دُمتُ أنتقد الأفكار وليس الأشخاص. في المقابل، مِن حقِّ الشخص المحظور أن يستفهم عن سبب الحظر، وأن يتلقَّى من الحاظِر ردًّا، إن كان يرى من نفسه أنه لم يُسِئْ لِمَن حظَرَهُ. ولكن، ليس من الأخلاق الفاضلة أن ينتقم للحظر بأية طريقة كانت، لأنَّ هذه الخاصية تنطلق في الأساس من مبدأ الحرية، إنْ لم يتعسَّف صاحبُها في استعمالها.

يتخطَّى الحظرُ تَعامُلَ الأفراد، إلى الأفق العالمي، عندما يصبح استعماله ظاهرةً أخلاقية، تمسُّ المستفيدين/ات عمومًا من شبكة المعلومات، كما هو الحال في “غُوغل”، حيث يَلزم استعمالُه تجاه المواد العنصرية أو الإرهابية أو الطائفية، أو التي تنتهك حقوق الإنسان والطفولة ونحو ذلك.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive