الرجوع

الحُريّة هُويّتي

الخميس

م ٢٠١٨/٠١/١١ |

هـ ١٤٣٩/٠٤/٢٤

في كتاب "الأرواح المتمرّدة" لمؤلّفه جبران خليل جبران، الصادر في نيويورك عام 1908، يُناجي الكاتب وهو لا يزال في ريعان الشباب بعمر 25 سنة، الحريّةَ، سائلًا إيّاها خلاص المنطقة العربيّة وشعوبها من عبوديّة الفقر والجهل والاستبداد، بكلام لا يزال صداه يتردّد في صدور كثير من شباب مجتمعاتنا وشابّاتنا، ويُعبّر عن آمالهم الراهنة.

يقول جبران: "أَصْغِي أيتها الحرية واسمعينا. من منبع النيل إلى مصبّ الفرات يتصاعد نحوك عويل النفوس متموّجًا مع صراخ الهاوية، ومن أطراف الجزيرة إلى جبهة لبنان تمتدّ إليك الأيدي مرتعشة بنزاع الموت، ومن شاطئ الخليج إلى أذيال الصحراء ترتفع نحوك الأعين مغمورة بذوبان الأفئدة. فالْتَفِتي أيتها الحرية وانظُرِينا، في زوايا الأكواخ القائمة في ظلال الفقر والهوان تُقرع أمامك الصدور، وفي خلايا البيوت الجالسة في ظلمة الجهل والغباوة تُطرح لديك القلوب، وفي قراني المنازل المحجوبة بضباب الجور والاستبداد تحنّ إليك الأرواح، فانظري أيتها الحرية وارحمينا. في المدارس والمكاتب تناجيك الشبيبة اليائسة، وفي الكنائس والجوامع يستميلك الكتاب المتروك، وفي المحاكم والمجالس تستغيث بك الشريعة المهملة، فأشفِقي أيتها الحرية وخلّصينا. في شوارعنا الضيّقة يبيع التاجر أيامه ليعطي أثمانها إلى لصوص المغرب، ولا مَنْ ينصحُه، وفي حقولنا المُجدِبة يحفر الفلاح الأرضَ بأظافره، ويزرعها حبّات قلبه، ويسقيها دموعه، ولا يستغلّ غير الأشواك ولا مَن يعلّمه... فتكلّمي أيتها الحرية وعلّمينا".

الحريّة هي بالفعل أوكسيجين الحياة، وتبقى هذه الأخيرة شبه ميتة بدونها. فما دام الإنسان يعيش في ظلّ التبعيّة، والتماهي مع الآخرين، والاستعباد، يبقى خارج مسار الحياة الحقيقي. يعيش الإنسان بدون حريّة ولكنّه لا يحيا، ويسير في جسد ميت كشبه إنسان، أو كمريض تعلّق مصيره بآلات التنفُّس الاصطناعي. ويذهب جبران خليل جبران إلى أبعد من ذلك، عندما يعتبر الحريّة بابَ وُلوج الإنسان والأشياء إلى هويّتها الحقيقية. فالمدرسة والمكتب يفقدان فعاليّتهما في العلم والعمل بدون الحرية، والكنيسة والجامع ينحرفان عن رسالتهما الدينيّة إذا فارقتهما الحرية، والكتب المقدّسة لا تُفْرج عن كنوزها الروحيّة إلّا لمن يقرأها بحريّة، والمحاكم والمجالس تنحرف عن مسارها في إحقاق العدل والسلام إن لم تكن الحريّة قِبْلتَها، وحتى عمل التاجر وتعب الفلاح لا يأتيان بالثمار المرجوّة بدون الحريّة.

لا تتناقض الحرية مع انتماء الإنسان إلى أي جماعة أو منظومة كانت، بل على العكس. إن انتماء الإنسان إلى عائلته، ووطنه، ودينه، ومجتمعه، وعمله، ومدرسته الفكريّة.. إلخ، لا يصبح عاملًا بنّاءً ينمو الفرد من خلاله ويتقدّم في تحقيق ذاته، إلّا إذا كان مَعِيشًا كأُفُق مفتوح للحرية والتمايز والفرادة والإبداع، لا كإطار مغلق للتبعيّة والتماهي والخضوع. فالانتماء الذي هو مصدر أساسي للأمان، يجب أن يكون أيضًا فرصة للنمو وَفْق مقدّرات الفرد وآماله وطموحاته، حتى وإن تعارض ذلك مع رأي الجماعة وانتظاراتها؛ لأنّه بالنهاية، مبرّرُ وجود أيّ جماعة هو تحقيق سعادة أفرادها، ولا يمكن أن تُبنى سعادة جماعة أو نجاحها على ظلم أفرادها، إذ لا يشعر الإنسان بفرح الانتماء إلى عائلته، إلّا عندما تكون هذه العائلة قاعدة للانطلاق بالحياة وتحقيق طموح الفرد، وفق تطلّعاته وإمكاناته الخاصة. ولا يعيش الإنسان الولاء الحقيقي لوطنه، إلّا عندما يكون الوطن مساحة للتفاعل الحرّ مع الآخرين، ولمشاركة الجميع في تحديد الصالح العام وتحقيقه. ولا يُسهم الإنسان في تطوير مجتمعه، إلّا إذا تجرّأ في الانتفاض ضد كل موروث يُعيق الحياة، وفكِّ أَسْر ذهنه وأذهان الآخرين من التصوّرات الجامدة والخاطئة، ولو تَوارثها الأجداد. ولا يكون انتماء الإنسان إلى أيّ دين أو مدرسة فكريّة عاملَ ارتقاءٍ نحو الحقّ والخير، إلّا عندما يكون هذا الانتماء فعلًا على قاعدة "لا إكراه في الدين"، أي عندما يصبح الإيمان محرِّرًا من كلّ عبوديّة. ولا يُبدع الإنسان في عمله، مهما كان هذا العمل، إلّا إذا أقبل إليه كلّ يوم بشغف الفنان المفتون بحريّة ريشته، التي تنساب خيوطها في لوحته الفريدة.

بهذه الحريّة الخلّاقة والمبدعة يكون الإنسان ذاته، فتتألّق هويّته بأنوارها، وتلبس "أناهُ" رداءها، وتنهلُ شخصيّته من هوائها، وتترك نوافذَها مفتوحةً لها. فالحريّة هي سبيل الإنسان إلى ذاته، وعنوان هويّته، وباب فرادته، وأوكسيجين حياته، وأداة إبداعه. وكلّ من حاول تحديد الحياة في أطر جامدة، و"تعليب" الإنسان في هويّات مفبركة، كان عدوًّا للحرية، وكارهًا للحياة، وسجّانًا للإنسان. لذلك، اختصر جبران دعاءه للحرية، في هذا الطلب الذي يختصر بصوته مسيرة الإنسانيّة، التي تأبى ألّا تحيا غير حرّة، فقال: "اِسمعينا أيتها الحرية، ارحمينا يا ابنة أثينا، أَنقِذينا يا أخت رومة، خلِّصينا يا رفيقة موسى، أَسعِفينا يا حبيبة محمد، علّمينا يا عروسة يسوع، قَوِّي قلوبنا لنحيا، أو شدّدي سواعد أعدائنا علينا فنفنى وننقرض ونرتاح".

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

 

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive