الرجوع

السؤال البسيط المُفخَّخ: “من أين أنت؟”

الأربعاء

م ٢٠١٨/٠٧/١٨ |

هـ ١٤٣٩/١١/٠٦

جرَت العادة بين الناس أن يَطرحوا سؤالًا: "من أين أنت؟"، عند اللقاء للتعارُف. وهذا التصرُّف قد يكون بريئًا وطبيعيًّا لبدء حوار مع الغرباء، وعادةً ما ينتهي بهم إلى تكوين علاقات وصداقات جديدة.

إلّا أنه يترتَّب أحيانًا على إجابة ذلك السؤال "من أين أنت؟"، تنميطٌ للمُجيب، أو خَلْقٌ لِحواجز تؤثِّر في عملية التواصل، وأحيانًا عداوات وأحكام مُطلَقة؛ وذلك فقط لأن المُجيب هو من بلد أو منطقة أو خلفيّة دينية أو مذهبية أو فكرية معيَّنة، كانت قد ارتسَمَت في ذهن السائل صورةٌ نمطيّة عنها، أو بالأحرى مُجتَزأة عن أهله. فمثلًا: إن كان الشخص في المملكة العربية السعوديّة من المنطقة الغربية، فهو متحرِّر جدًّا، وإن كان من الوُسْطى فهو متشدِّد ومنغلِق، وإن كان من الشرقية فهو شِيعيٌّ، وغيرها من الصور، التي قد تعزِّزها تجربةٌ شخصية لدى السائل، وبِناءً عليها يُطلِق أحكامًا كلِّيّة وقَطْعيّة.

في مرَّات كثيرة، تكون هناك أفكار وصور، التُقِطَت من الإعلام، ومن الدائرة الشخصية والمعارف والقراءات، ويراد بها أن يُحاكَم المُجيب على كلِّ هذه القضايا والأفكار، التي يَعرفها السائل عن منطقته أو بلده أو خلفيّته العِرقيّة أو الدينية أو المذهبية، وحتى أحيانًا أنْ يُحاكَم على القضايا الداخلية والخارجية، وكأنه هو المسؤول. كلُّ هذا وأكثر، قد يحصل نتيجة الإجابة عن هذا السؤال البسيط: "من أين أنت؟".

في بعض الأحيان، قد يُعفِي السَّائلُ نفسَه من مشقّة السؤال، فيقوم بتنميط الناس وإلقاء الأحكام عليهم؛ بِناءً على بعض المواقف والآراء، أو على المظهر فقط. فالمظهر الخارجي كافٍ لدى بعضهم لتحديد أفكار الأشخاص وانتماءاتهم، بل ولِلحُكم على أخلاقهم وقناعاتهم! وقد يصل الأمر في بعض الأحيان إلى تأطير أحلامهم، والتدخُّل في شؤونهم. فعلى سبيل المثال: هنالك مَن يرى أن المرأة المحجَّبة أو المنقَّبة، لا بد بالضرورة أن تكُون مَقموعة، أو مُجبَرة على ارتدائِها الحجاب أو النِّقاب. وعلى هذا، هي ضعيفة ورجعيّة في تفكيرها، وإن كان لها أيُّ إنجاز في حياتها العِلمية مثلًا أو العَملية، فهي بالتأكيد قد تمرَّدَت على المألوف والسائد في بيئتها. وفي المقابل، يرى آخرون أن كلّ محجَّبة هي رمزٌ للطُّهر والعفاف ومقاومة الفساد، ومِن ثَمَّ لا يَتَوانَون في إطلاق أحكامٍ أخلاقيّة جائرة، على كلِّ امرأة غير محجَّبة.

ربما يَتبادر إلى ذهنك الآن، موقفٌ عانَيتَ فيه مِثلي أحكامَ الناس الجائرة، وتصنيفاتهم الضيِّقة لك. لكن، نحن جديرُون أيضًا بأن نستحضر أننا لَسْنا في مأمن، من ارتكاب مثل هذه الأخطاء على غيرنا.

لقد مررْتُ بتجربة شخصية خلال فترة دراستي في أميركا، حيث كانت الأستاذة تخصِّص أوّل جزء من كلِّ حصَّة، لمناقشة بعض الصور النمطية والعنصرية، التي ربَّما يواجهها الطالب الدولي. ولأنَّا كنَّا متنوِّعين جدًّا من حيث الجنسيّات والمعتقدات، كان من الطبيعي أن نناقش الكثير من التصوُّرات الخاطئة بالنسبة إلينا. من جهتي، كانت الفائدة الكبرى حين تحدَّثتُ مع زملائي من العرب والسُّعوديِّين، بالصور النمطية التي نَحملها عن بعضنا بعضًا.

على الرَّغم من أن الشُّروع في مثل هذه النقاشات، يحمل بعض التشنُّج والتعصُّب أحيانًا، إلّا أنه ومع تكرار السؤال بشكل نتجنب فيه إلقاء الأحكام على الآخرين، نجحنا في الوصول إلى لغة مشتركة ومُتقبَّلة بيننا للحديث بأيِّ شيء. فحدَّثتُ زملائي الذين لم يزُوروا السعوديّة من قَبل، بأنها ليست صحراء قاحلة، وبأنها متطوِّرة في العمران، وأننا كغيرنا من الناس في أيّ مجتمع، فينا الأغنياءُ، وذَوُو الدَّخل المحدود. وفي المقابل، كانت معرفتي لِبَلدي أكثر من معرفة زملائي، من المناطق الأخرى. فأَعْرِف عن الأحساء والتنوُّع المذهبي الموجود فيها، وعن ثقافة التسامح وتقبُّل الآخر التي تتميز بها الأحساء عن غيرها، لِكونها تضمُّ العديد من الأُسَر السُّنّيَّة المتعدِّدة المذاهب، والأُسَر الشِّيعيّة، حيث تَربط فيما بينهم علاقات مَبنيَّة على الاحترام والتقدير والمحبة؛ وهذا ما جعلني شغوفة بأن أكتشف المزيد من الثراء والتنوع عن بلدي ووطني.

نحتاج دومًا إلى مراجعة ذاتيّة لمواقفنا وأفكارنا المقدَّمة، التي تَقطع الطريق علينا، لنكتشف الآخر ونتعرَّف إليه من خلال ما يقوله عن نفسه، لا من خلال تصوُّراتنا عنه. فقد خلقَنا الله شعوبًا وقبائل لنتعارف ونتآلف، لا لكي نتحزَّب ونتباغض، بل لِنتحاور مع الآخر، ونسأله لكي نكتشف ونتعلَّم منه، بدلًا من أن نصنِّف ونَحكم، ومِن ثَمَّ قد تَصدُر عنّا سلوكيّات جائرة دون أن نَشعر أو نَقصد، وأقلُّ ما يقال عنها إنها عنصريَّة.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive