الرجوع

السِّحر وخداع الجماهير

الثلاثاء

م ٢٠١٨/١٠/٠٩ |

هـ ١٤٤٠/٠١/٢٩

تحرير العقول من أَسْر التفكير الخُرافيّ، هو أحد أهمِّ الغايات التي يجب على الخطاب الديني المُعاصر أن يحقِّقها. وإنِ انطلقنا من قاعدة عدم التناقض، باعتبارها أساسًا مَرجِعيًّا أكَّده القرآن بقوله تعالى: {أَفلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ ولو كانَ مِن عندِ غَيرِ اللَّهِ لوجَدوا فيهِ اختِلَافًا كثيرًا} [النساء: 82]؛ فإن ذلك يدعونا إلى نقد كلِّ مقولة أو رواية تُناقض العقول السَّويّة، أو تُعارض المَقاصد الكلِّيّة للدِّين.

يتَّجه معنى السِّحر في اللغة العربية، إلى "صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره". وهذا الصَّرف هو تحوير وتزييف لحقيقة الشيء، وهو "كَيْد"، كما في وَصْف القرآن لِما فعلَهُ "سَحَرة فرعون"، الذين استخدموا طُرقًا للخداع البصري، واستغلُّوا مخاوف الناس وهواجسهم النفسية {فلمَّا ألقوا سَحَرُوا أَعيُنَ النَّاسِ وَاستَرهبُوهُم} [الأعراف: 116]. يوضح القرآن أن فرعون قد أجبر السَّحَرة على ممارسة السحر: {وما أكرَهتنَا عليهِ منَ السِّحرِ} [طه: 73]. وهذا يعني أن ممارسة السحر لا تتصل بمعارف روحية خارقة، يَحصل عليها السَّاحر من قوًى فوق الطبيعة. وأيضًا تؤكِّد القصة أن السَّحَرة لا يَملكون قوة خارقة، لأنهم لو كانوا كذلك، لأمكنهم الإفلات من عذاب فرعون وقتْلِه لهم.

إن سُلطة فرعون على السَّحَرة تمثِّل أنموذجًا من خداع النُّظم الاستبدادية للجماهير، في سبيل تحقيق مصالحها ومنافعها الخاصة. وهذا يعني أن التركيز على المضمون الإعجازي للسحر، باعتباره خارقًا ومُناقضًا للسُّنن والقوانين الطبيعية، يُسوّغ ويشرّع لخداع الجماهير والسيطرة عليهم.

وفي سياق الجدل الديني المستمرّ، حول مصدر السحر وبدايته في التاريخ الإنساني، لا بد من التعرُّض لآية تُعدُّ من أكثر الآيات إشكالًا عند المفسِّرين، وهي قوله تعالى: {واتَّبعُوا مَا تَتلُو الشَّياطينُ علىٰ مُلكِ سُلَيمَانَ وما كفرَ سُليمانُ ولَكنَّ الشَّياطينَ كفرُوا يُعلِّمون النَّاس السِّحر وما أُنزل على الملكينِ ببابلَ هارُوتَ ومَارُوتَ} [البقرة: 102]. فالآية لم تأتِ لِتقرير عقائد الإسلام، وإنما جاءت في سياق حكاية القرآن، ونقْدِه لِما كان شائعًا بين فريق من بني إسرائيل زمن التنزيل، من اعتقاد نزول ملَكَين من السماء يُعلِّمان الناسَ السِّحر. ثم إن الآية قد وصَفت في مَطلعها تعليم السحر بأنه "كُفر"، وأنه من تعليم "الشياطين"، فكيف للملائكة أن يعلِّموا الناس الكفر؟! وأيضًا القول بأن الملائكة يُعلّمون الناس السحر، يجعلهم والشياطينَ في منزلة واحدة من الضلال. وهنا نَذكر ما ذكره الطبري عن ابن عباس والربيع بن أنس، بأن المعنى المقصود بِـ"ما" في قوله: "وما أُنْزل على الملَكَين"، هو "لم يُنْزَل على الملَكَين"، وفي هذا القول كفاية.

أدَّى الدفاعُ عن المَرويّات والتفسيرات التُّراثية بعيدًا عن المضامين المَقاصدِيّة للدِّين، وضُعفُ التفكير العلمي، إلى إدراج مَرويّات مناقضة للعقل والقرآن، كما هو الحال في رواية سِحر النبي، التي تتعارض مع القرآن ذاته: {إذ يقولُ الظَّالمونَ إن تتَّبعُون إلَّا رجُلًا مسحورًا} [الإسراء: 47]. فلم يكترث المدافعون عن هذه الرواية لِلآثار السيئة المترتِّبة عليها، والتي تَراوحَت بين رفض بعض الدارسين لصحة المَرويّات الحديثيّة، والتشكيك في مصداقيّة الإسلام جُملةً وتفصيلًا!

على مستوى الداخل الديني، أدَّى النظر إلى القرآن كتَمْتمات سحريّة تَطرد السحر، وتَحُول دون تلبُّس الأرواح الشِّرِّيرة، والإصابة بالعين والحسد؛ إلى إخراج القرآن عن كونه كتاب هداية وتفكُّر، جاء ليحرِّر العقول من سذاجة الجهل وقُبح الخُرافة. فيجب على المؤمن الراشد أن يسأل نفسه، ويراجع قناعاته باستمرار. ومن هذا المنطلَق يمكننا أن نسأل: هل يمكن للساحر أن يخترق القوانين والسُّنَن التي أوجدها الخالق؟ وكيف يمكن للسَّحَرة أن يَسحروا الرسل والانبياء؟ وإذا كان السحر وطلاسم المُشَعوذين يمكنها أن تصيب الأنبياء، فكيف لعامة الناس أن يتحصَّنوا بشيء من التِّلاوات المقدَّسة؟

وأيضًا نتساءل: متى يُدرِك المؤمنون بالسحر بِاسم الدين، أنّ زعْمَهم تأييدَ القرآن لوجود السحر، يَدعم مقولات مَن يرى العقائد الدينية نِتاجًا لتطوُّرٍ تاريخيّ للفكر الإنساني، وليس نِتاجًا لمعرفةٍ مُوحًى بها، تتجلَّى فيها حكمة الخالق وإبداعُه؟!

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive