الرجوع

الشعائر الدينيّة في زمن الكورونا

الخميس

م ٢٠٢٠/٠٤/٠٢ |

هـ ١٤٤١/٠٨/٠٩

يقترب عيد الفِصْح هذا العام، في ظروف يَعيشها جيلُنا المرّةَ الأولى. وفي وسط الشوارع الخالية، ودُور العبادة المقفَلة، والأسواق المقفِرة، يبدو العيد وكأنَّه يَهجُرنا. فلا مجال للتَّسوّق للشَّعْنِينة ، ولا إمكانيّة للزّيَّاح (التَّطْواف)، أو للسَّير خلف الأَبُونا في شوارع الرعيّة. فكيف سيكُون أسبوع الآلام بِدُون زيارة السبع كنائس، وبدون الجمعة العظيمة في الكنائس، وأحد القيامة مع قدّاس العيد؟ وكيف سيكون العيد ونحن ممنوعون/ات من الزيارات، أو الخروج للاحتفال؟ يقولون لنا: إنَّ الأمر سيطول.

بعد بضعة أسابيع، يبدأ شهر رمضان المبارك. فكيف لنا أن نَعيشه وكلُّ شعائره محجورة، ولا قدرة على التَّبضُّع اليوميِّ لشراء أطايب موائد الإفطار، وممنوع علينا الاجتماع بالأحبّة، وممنوع علينا صلاة التراويح في الجوامع خلال الشهر الفضيل، وممنوع علينا الاحتفال بعيد الفِطر كما اعْتَدْنا، ورُبَّما ممنوع معايدة الأطفال بالعِيديّة الماليّة بسبب ذاك الكائن المجهريّ "كورونا"؟!

طُقوسنا وشعائرنا محجورة! ولكن، لماذا نحتاج إلى الشعائر والطقوس؟ وهل نحن أمام تَغيُّر في ممارسة معتقداتنا؟ وكيف لنا تَقبُّل فكرة غياب الشعائر، التي طالما اعتبرناها جزءًا من إيماننا؟ فلماذا نمارس الشعائر؟ إنها لا تقتصر على التعبير الإيماني؛ إذ في حياتنا اليوميّة، نقُوم بإرساء طقوس نردِّدها يوميًّا، لِمَا لها من تأثير إيجابيّ في حياتنا. ويتّفق الباحثون في التربية على ضرورة دعوة الأهل مثلًا، إلى إرساء طُقوس معروفة يوميًّا لأولادهم، لِمَا لذلك من تأثير إيجابيّ في بناء الشخصيّة والتركيز، والشعور بالانتماء والأمان.

قد يكون الشعور بالأمان والانتماء، هو السبب الأوّل لحاجتنا إلى ممارسة طقوس وشعائر اجتماعيّة ودينيّة. وقد اكتشف البشر تلك الحاجة، عندما تَحوّلوا من الصَّيد والتنقّل في البراري، إلى الزراعة والاستقرار. ومع ازدياد حجم الجماعة، أصبح الخروج أصعب، وزادت الحاجة إلى بناء الأواصر المجتمعيّة. وبحسب روبين دونبار (الباحث البريطاني في علم الأنثروبولوجيا)، تَحوَّل شدُّ أواصر العلاقة في المجموعة من الاستمالة (grooming) -عبْر الملامسة التي عرَفَها البشر وعرَفوا تأثيرها في الشعور بالرضى، حيث تُطلق مادّة الإندورفين في الجسم والدماغ-، إلى وسائل جديدة كالموسيقى والرسم وتَطوُّر التواصل الشفهي، لكنّها لم تكن تَشدّ أواصر الجماعة كلّها معًا في الوقت نفسه.

وَحْدها الشعائر والطقوس استطاعت تطوير الشعور بالانتماء، لِمَا لها من دور في إطلاق الإندورفين، لدى كلِّ فرد في الجماعة وفي الوقت ذاته. وقد أثبتَت دراسات حديثة، قام بها فريق الباحث الأميركي في علم الأعصاب "أندرو نيوبيرغ"، من خلال الماسح الضوئي (scan) أمرَين لافِتَين:

-الفكر الإيماني يَنتِج منه تنشيطٌ لدوائر جديدة في الدماغ، وإلغاءٌ لدوائر أخرى، وتشكيلٌ لتَشعُّبات واتصالات جديدة، ويصبح الدماغ أكثر حساسيَّةً لعوالم أخرى من الخبرة، أيْ يتعدّل تشبيك الأعصاب في الدماغ فعليًّا.

-خلال ممارسة الشعائر وخلال التأمّل أو الصلاة، تَعمل منطقتان من الدماغ بشكل لافت معًا، هما الفصُّ الجداري (parietal lobe) والفصُّ الجبهي (frontal lobe).

يقول نيوبيرغ: إنه مع الوقت، ومن خلال الممارسة لتلك الشعائر أو التأمّل، يَهدأ الدماغ، وتتوقّف أجزاء منه، بحيث تختفي حدود الشعور بالذات وبالآخر، ليحلّ مكانها شعور بالاتحاد مع الآخر (فرد، أو جماعة، أو الله…). فأيُّ شعائر وأيُّ إيمان في زمن الكورونا؟ يمْكن للشعائر والطقوس -الدينيّة وغير الدينيّة- أنْ تساهم مساهمة فعليّة في التعبير عن إيماننا أو ذاتنا، وتَملك تأثيرًا جسديًّا في المؤمن، وتُقدِّم الشعور بالانتماء والوحدة والأمان لمعظم مكوّنات المجتمع. هي بذلك حاجة بشريّة. ونحن اليوم في زمن الكورونا والحَجْر، محرومون/ات مُمارسةَ القسم الأكبر منها. فقد أقفلَت دُور العبادة أبوابها أمام إصرارنا، ولا سبيل إلى الاحتفال معًا، أو الصلاة مع الجماعة، أو التعبير بالشكل عن انتمائنا. أيضًا يمْكننا مضغ إحباطنا واجتراره، وزيادة شعور الغَبْن على سلسلة مشاعرنا السلبيّة حاليًّا، ومنها القلق والخوف والحزن، ويمْكننا رؤية الجزء الملآن من الكوب أيضًا.

كما الشعائر، فلِلتَّأمّل والصلاة نفْسُ التأثير الإيجابي في دماغنا وعلاقاتنا. فلِمَ لا تكُون هذه الأيام العصيبة، بوّابةً للتأمّل والصلاة؟ فتنظيم الشعائر يهدف لعيش الإيمان اللامحدود، ويبقى الإيمان هو جل ما نملك اليوم، ولا زال بمقدورنا ممارسة قسم من هذه الشعائر داخل بيوتنا مع الأحَبِّ إلينا، بعيدًا عن الضغط الاجتماعي والاقتصادي، الذي كنّا في الأمس القريب نَرْزح تحته، للظهور بأبهى حُلّة أمام أعين "الآخَر" في المناسبات الدينيّة.

لَرُبّما تكُون هذه الأزمة بوّابة لمساءلة ذاتنا: هل يرتكز إيماننا على وقْع شعائر معيّنة، أمْ على ما هو أعمق وأصْدَق وأبْعَد من الشكل؟ وهل نَعتَبرُ شعائرنا سلاحًا في وجه شعائر الآخَر لإثبات مكانتنا، أمْ هل نَعتبرها تعبيرًا صادقًا، يُرِيحنا ويُشعرنا بالوَحْدة مع الآخَر في الجماعة، ومع الخالق؟.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive