الرجوع

الصِّدق مُنطلَق الخلاص

الثلاثاء

م ٢٠١٨/٠١/١٦ |

هـ ١٤٣٩/٠٤/٢٩

البحث عن القيم الجامعة التي يلتقي عليها الناس من مختلف الأديان والثقافات، يمثل ضرورة كبرى، خاصة مع تصاعد النزاعات وتنامي الهويات الفرعية الانفصالية. ومن أهم القيم التي يجتمع الناس عليها، ويمكن أن تسهم في مصالحة الإنسان مع إنسانيته، قيمة الصدق.

الصدق هو الركن الأوّل من أركان الأخلاق، وهو منطلَق لكثير من الأخلاق الإنسانية السامية التي تؤسس للعمران البشري. فالصدق يفضي إلى العدل والأمانة؛ أمّا الكذب فيفضي إلى الظلم والخيانة والنفاق. ومن منطلق الصدق مع النفس يحب الإنسان لأخيه الإنسان ما يحبه لنفسه، فلا قيمة للإيمان بالمعتقدات والتصورات الغيبيّة، دون أن يُصَدِّقها الإنسان في سلوكه تجاه محيطه الإنساني والكوني.

تتسم قيمة الصدق بالثبات، فهي تتصل بالإنسان من حيث هو إنسان. ويبدأ الصدق من الإحساس والشعور، ثم يمتد إلى الفكرة والقول، ويبلغ الصدقُ أوْجَهُ عندما يتجسد في سلوك الإنسان تجاه محيطه الاجتماعي والكوني العام.

ولو لم يكن للصدق فضيلة سوى أن يكون الكاذب مبغوضًا حتى من أصدقائه، والصادقُ ممدوحًا حتى من خصومه وأعدائه، لَكَفى. وفي هذا المعنى قال الأحنف ينصح ابنه: "يا بني، يكفيك مِن شرف الصدق، أنَّ الصادق يُقبل قوله في عدوِّه، ومن دناءة الكذب، أن الكاذب لا يُقبل قوله في صديقه ولا عدوه". ومن غير المستغرب أن يتوارى الصدق في المجتمعات المأزومة وراء المنفعة، وينتشرَ الكذب والغش في شؤونهم الدنيويّة والدينيّة، ويصبح الكذب عندهم "ملح الرجال"، ويغدو الصدق بزعمهم  مثاليّة تضر صاحبها ولا تنفعه.

إن الإشادة بالصدق أو الدعوة إليه، قناعة قديمة وراسخة في الوجدان الإنساني، وقد شدَّدَت الأديانُ في تعاليمها الأساسيّة على الصدق، كما في قول بوذا: "لا تكذبوا أبدًا، ولكن كونوا صادقين في القول" (إنجيل بوذا). وجاء في الأسفار اليهوديّة ما يَنهى عن الكذب ويحض على الصدق، كما في سِفْر الخروج: "لَا تَقْبَلْ خَبَرًا كَاذِبًا، وَلَا تَضَعْ يَدَكَ مَعَ الْمُنَافِقِ لِتَكُونَ شَاهِدَ ظُلْمٍ" (الخروج 23: 1). والصدق هو مرضاةٌ لله: "كَرَاهَةُ الرَّبِّ شَفَتَا كَذِبٍ، أَمَّا الْعَامِلُونَ بِالصِّدْقِ فَرِضَاهُ" (الأمثال 12: 22). وفي الأسفار المسيحيّة "لِذَلِكَ اطْرَحُوا عَنْكُمُ الْكَذِبَ، وَتَكَلَّمُوا بِالصِّدْقِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ قَرِيبِهِ" (رسالة بولس إلى أفسس 4: 25). ويربط بوذا الصدق بالإيمان فيقول: "ابْحثْ بإيمان صادق وواظِب على بحثك ستجد في النهاية الحقيقة" (إنجيل بوذا)، وأيضًا يوثّق يوحنا العلاقة بين الصدق ومحبة الله فيقول: "وَنَحْنُ قَدْ عَرَفْنَا وَصَدَّقْنَا الْمَحَبَّةَ الَّتِي للهِ فِينَا") رسالة يوحنا الأولى 4: 16). أمّا في القرآن، فقد وصف اللهُ نفسَه بالصدق فقال: {وَأَتَيْنَاك بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الحِجْر: 64]، كما أنها صفة ومرتبة للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

ومن المعاني الجميلة التي تتصل بالصدق ودلالاته الإيمانيّة، أن تسمية الصِّدّيق في اللغة العربية تتصل بالصدق كما يقول ابن منظور: "والصّدّيق الدّائم التّصديق، ويكون أيضًا الّذي يصدّق قوله بالعمل، والصّدّيق المبالغ في الصّدق" (لسان العرب). ولم يُطْلق القرآن هذه التسمية على وجه التعيين في سوى حق امرأة واحدة هي مريم عليها السلام، ورجلين اثنين هما إبراهيم وإدريس عليهما السلام.

ومما يجدر الالتفات إليه أن إنسانيّة القيم وعالميتها هي التي تؤسس لعالميّة الإيمان، فالمفاهيم العَقَدِيّة ترتكز في عمومها على صدق النيّة والتوجه، قبل أن تتبلور في هيئة تصورات وأفكار.

ومن أجمل الأقوال التي جمعت بين الصدق والإيمان والفوز برضى الله، قول المصطفى: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا.." (رواه مسلم).

ويمكن لهذه النظرة الأخلاقيّة التي تقوم على مفهوم الصدق، أن تسهم في صياغة المفاهيم العَقدِيّة بعيدًا عن ظلال "عقيدة شعب الله المختار"، ومن أمثلة ذلك مسألة نجاة الإنسان عند الله واتصالها بالصدق، كما يتجلى ذلك في الحوار بين الله والمسيح في خواتيم سورة المائدة عندما قال: {قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119]. فالنجاة عند الله ليست مجرد تصورات ذهنيّة يتوارثها الناس، وإنما هي في جوهرها تقوم على طلب الصدق والسعي إليه على قدر الوسع البشري.

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive