الرجوع

الطبيعة اللَّاعنفيّة لِلدِّين

الإثنين

م ٢٠١٨/٠٤/٣٠ |

هـ ١٤٣٩/٠٨/١٥

 

لا نجد في القرآن الكريم كلمة "لاعنف"، بل نجد كلمة "لاإكراه"، في الآية 256 من سورة البقرة: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}. واللاإكراه أقوى دلالةً وأكثر جذريةً في التعبير عن اللاعنف، لأنه ينفي العنف النفسي، وهو عنف خفي لا يُسيل دمًا ولا يترك كدمات، ولكنه يُفضي إلى العنف المادي بتهيئة ظروفه.

إن آية {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} لا تمثّل فقط مبدأً أخلاقيًّا مركزيًّا، بل هي في حدّ ذاتها تعريفٌ للدين. فالدين لا يجتمع مع الإكراه، الذي يُراوِح بين العنف باليد والسلاح، والعنف بالكلمة والإشارة، بل والعنف بالصمت والتجاهل. اللاإكراه نفيٌ قاطعٌ لكلّ أشكال العنف، ما ظهر منها وما بطن. فهو تطهيرٌ للدين من كلّ الشوائب، التي من شأنها أن تشكّك في القناعة الحرّة والعميقة للإنسان، أو تقلّل منها. اعتناق دين ما أو الخروج منه، تطبيقه أو تركه، خيارات ممكنة للإنسان ما دام طليق الجَنان واللسان. فكلّ من يتصوّر أنّ سلطةً خارجية (دولةً أو قانونًا)، يمكن أن تصنع مؤمنًا صالحًا، فهو مخطئ. فالإكراه لا يصنع إلا المنافقين، أو المضطهدين الخائفين. الإكراه إرهاب نفسي يَستعبد ولا يحرّر، مناهض للدين بطبيعته، مناقض للإيمان بالروح والحقيقة.

بعد ذلك، تُواصل الآية نفسُها مبيِّنةً أسباب اللاإكراه: {قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}. يمكن فهم التقابل بين "الرشد" و"الغيِّ" على مستوَيَين: مستوى الفكر، ومستوى العمل. فعلى مستوى الفكر، تؤكّد الآية دينامية الحقيقة واستقلاليتها. فلها من الجمال والوجاهة والقدرة على الحركة والإقناع؛ ما يجعلها تتميز عن الظلمة والجهل. الحقيقة تنطلق مِثل النور في الدياجير، فلا تحتاج إلى حامٍ أو وصيٍّ أو بوَّاب. فهي عابرة للأشخاص والثقافات، قوية بذاتها لا بغيرها، مانحة للخير والجمال والحرية، تستخدم الناسَ والناسُ لا يستخدمونها. أما على مستوى العمل، فإنّ الإكراه غَيٌّ وبَغْيٌ وظلم، يَتنافَوْن ورُشْدَ السلوكِ وحكمتَه واتزانه. الإكراه غطرسة شيطانية، وكِبْر إبليسي، لَيْسَا من الرشاد في شيء.

الدين اللاإكراهي هو دين لاعنفي بامتياز: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. كُلّ أمرِهم: من الصغيرة إلى الكبيرة، من العائلة إلى الدولة، ومن المدرسة إلى الوزارة. الشورى هي التعبير العملي لِلَّاعنف واللاإكراه، فإنِ انعدمت ساد الاستبداد والقهر من ناحية، وساد النفاق والرعب من ناحية ثانية، كوجهين لعملة واحدة فاسدة مفسدة.

المسلمون اليوم في أمسِّ الحاجة إلى تفعيل مفهوم {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، وتوسيعِه على جميع المستويات والمجالات، كمبدأ تأسيسي شامل. الديكتاتوريات، وإن بدا بعضها علمانيًّا، تضطر في لحظة من لحظات تاريخها إلى "التوبة"، واستخدام الدين ذريعةً لتبرير الهيمنة. فمَن يفتقدِ الشرعية الشعبية، يتمسكْ بكل ما من شأنه أن يُضفي هالةً من القداسة على الحاكم، باعتباره: حامي الحمى والدين، المدافع عن الهوية المهدَّدة (منه في الحقيقة)، الذائد عن المقدَّسات والمحارم. وتدور في فلك الديكتاتور حاشيةٌ من المنافقين "الدينيين"، وهي عبارة متناقضة، يبرّرون بها ما يقول، ويُلبسونه "الـشرعية" المنقوصة.

مركزية اللاإكراه الديني، تجعل من الديمقراطية (وهي التعبير السياسي المعاصر للشورى)، شرطًا ضروريًّا لتحقيق قيمَتَي الحرية والعدالة، اللَّتَين تسمحان للإنسان بالاختيار؛ فيَكون إيمانه صادقًا مخلصًا نابعًا من قناعة حرّة، لا خوفًا من عقاب أو طمعًا في غنيمة. وإن اختار ألَّا يُؤمن، أو أن يؤمن بما لا تؤمن به الأغلبية أو الحاكم، فله ذلك آمنًا على نفسه وأهله وماله. تدوير مبدأ "اللاإكراه" 360 درجة، يعني أن مصدر القوانين هو ممثِّلو الشعب، نتيجةً للشورى فيما بينهم بعقلانية وموضوعية. فلا يمكن لأحد أن يَفرض رأيًا باسم الله أو الدين.

{ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. هذه الآية من التجليات العظيمة للدين اللاإكراهي، فالوسيلة من جنس الغاية، وبطبيعة الحال الغاية لا تبرّر الوسيلة. {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16]، يهدي به، أي بالقرآن، إلى سبل السلام والرحمة. هذا هو المعيار في الفكر والسلوك، الذي يُرجِع إلى الدين طبيعتَه الأصلية ورسالته الأولى، بلا غَبَش (ظُلْمة) ولا الْتِباس.

 

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive