الرجوع

العربي الذي يولد مظلومًا

الخميس

م ٢٠٢٠/٠٥/٢٨ |

هـ ١٤٤١/١٠/٠٦

كان خطيب حيِّنا القديم -ومِثله كثير- يخصِّص الجزء الأخير من خطبته، للحديث في هزائمنا وفي تَفاهتِنا، بِوصْفِنا جِيلًا لم ينتصر. كان ينتحب أحيانًا وهو يخبرنا بإخفاقاتنا المتتالية، ويَصِفُنا بأننا جيل ناقص بطبعنا، لا اكتمال لدَينا حتى نسدِّد ديون تلك الهزائم. أمَّا الجزء الأول من خُطبته، فكان يخصِّصه في استعراض بطولات حربية تاريخية، يضعها هدفًا معياريًّا لما يجب أن نكُون عليه. فأتذكَّر نشْوَته وهو يَسرد تلك البطولات، بعد أن يَغمرها بالنص والمَثل والشِّعر، ليَملأ حقائب المظلوميَّات لدينا، إنْ كان بقي فيها أماكن فارغة.

جرت العادة على أنْ يُولَد العربيُّ، وإلى جواره جبلُ مَظلوميَّة. وما إنْ تبدأ أيام إدراكه الأولى، حتى يجد نفسه محاطًا بسلسلة من الديون الاجتماعية الهائلة، العابرة إليه من أجيال أسلافه، ليَقضي عمره في قيود الماضي. فتُلازمه طول الوقت، وتُشكِّل ذهنيَّتَه، وتَرسم أولَويَّاته، وتَصُوغ له المنظومةَ الاجتماعية في حياته، لتَبقَى معه حتى خط النهاية. فإِنْ قرَّر التَّنصُّل منها، يعيش في غالب الأحيان في الظِّلِّ المُوَازي للمَظلوميَّة، أيْ في خطِّ تبرير لماذا تَخلَّى عنها، ولماذا لم يصبح جزءًا من أنساقها. وحين تأتي لحظة الممات، يرحل وفي نفسه حسرة من عدم الوفاء، لِيُورّث الجِيلَ الجديد تلك المهمَّةَ الناقصة، وهو جِيل يُفِيقُ عند الولادة، وبجواره حقيبة ممتلئة بتفاصيل ماراثُون المَظلوميَّة المعمِّرة.

يُمثِّل الحنينُ إلى الماضي جزءًا أساسيًّا من هذه السَّرديّة؛ إذ هي تَشغل مَخزونَ الحالة المثالية لدينا. وهذه النماذج المثالية تبدو لقطاتٍ متفرقةً من حِقَب مختلفة، يجري تجميعها بصِفتها مَواقف وأحداثًا. فالمُقاتل الذي يكسر عشرات السيوف وهو يقاتل، والمَعاركُ غير المنتهية في سبيل بسط النفوذ، والخطابُ الفَوقيُّ في التعامل مع الآخر (العدوّ)، صُوَرٌ لهذه السردية. وبحسب التاريخ المتداوَل في مكتباتنا، استطاع شُخوص تلك الفترات الزمنية تحقيقَ انتصارات حربية عِدَّة، ويجري تثبيت تلك الصُّوَر باعتبارها أهدافًا ساميَةً في طريق العبور من الهزيمة. ووَفْقًا لذلك، يصبح واقعنا غيْرَ مَرضيٍّ عنه مهْما سُجِّلت فيه من نجاحات، لأنها لا تتوافق مع نمطية النجاح الموجود في ذهنية العقل الجَمْعي، الذي تُمْلِيه هذه النماذج، والذي يصوِّر الآخر مهزومًا ذليلًا، ويصوِّرنا منتصرين. وأيضًا تَظهر المَظلوميَّاتُ التي نعيشها، باعتبارها أُحجيَّةً غيْرَ قابلة للحلِّ.

تَبرز الإشكاليةُ الرئيسية لهذه الظاهرة في الانحسار الذاتي، أيِ التَّقوقُع داخل الذات، بعد وضع دِرعٍ مجتمعيٍّ صُلْب تجري حياكته من هذه المظلومية. وأيضًا تَبرُز في التعامل مع المجتمعات الخارجية بوَصْفِها مجتمعات عدُوَّةً مُذنِبة في حقِّنا، لأنها كانت السبب الرئيس في هزائمنا، أو لأنَّ أسلاف تلك المجتمعات تَسبَّبُوا في خسائر أجدادنا. وهنا، تزدهر نظرية المؤامرة، ويزدهر سُوقُها وخطابها، ويَبرز معها التجلِّي السلبي للهُويَّات الضيِّقة والتمايز المؤذي.

إنَّ تلك الظاهرة تَعْزُو سببيَّة الخلل أو الهزيمة التي نعيشها، إلى القوى الخارجية، وتَنسى أو تُهمل -بقصد أو بدون قصد- مهمة المراجعة العقلانية والنقد الذاتي، للكثير من الأخطاء التي ارتُكبت من داخل مجتمعاتنا. أيضًا عندما تَظهر أسماءٌ بارزة من داخلنا تَسبَّبَت بتلك الهزائم، يجري وصفُها دون تردُّد بتبعيَّتها للعدوِّ الخارجي، أيْ أنَّ الداخل طاهِرٌ مَحْض، لا يرتكب خطأً البتَّة، في حين الإشكالُ يَكمن في الخارج. لذلك، تنمو ظاهرة التطرف في الاتهامات والشيطنة لِلمختلف، وربْطِ ذلك بكِياناتٍ خارج جسدنا المظلوم في العادة.

تتجلَّى المَظلوميَّة بصورتها البُنيَويّة في مجتمعاتنا، بِاعتبارها نتيجةً طبيعيَّةً لهذه الثقافة، وتتحول هذه المظلومية إلى مشاريع خصْبة تتصارع مع أقدامها، وتُحارب كلَّ مختلف ومُخالف. ومع أنَّ هذه المشاريع تضع على عاتقها -حسب ما تُعلن- مهمة النهوض والخروج من وَحْل الهزيمة، فإنَّها تُقدِّم مَزيدًا من الإخفاقات. فمعظم الحركات التي تنشأ من رَحِمِ هذه الثقافة، ليست سِوَى تَجلٍّ واضحٍ للمشكلة البُنيويَّة لهذه الظاهرة. ثم إنَّ زيادة أَتْباع هذه الكيانات، ليس لنجاح مساراتها؛ وإنما لِكَونها تُؤطِّر ثقافة سائدة، أيْ أنَّ مجموع المظلوميات التي يحملها الأفراد، تُوضَع في قالب واحد على صورة حركة مجتمعية، مادَّتُها الأساسية مظلومية أجداد الأتباع. مع مرور الوقت، يصبح نهج المظلومية -لا موضوعها- هو الأساس. فنجدها في سلوك تلك الكيانات، وتتحول إلى عُدَّة لِلمشاريع السياسية التي تنشأ بيننا.

أَنْ تُولَد وفي كفِّك حُزمة من هزائم الماضي، حدثَت في أزمنة لا تخصُّك، وكلُّ أطرافها تلاشت، يَعني مجيئَك للحياة إنسانًا رأسه في الخلف. لا تستطيع رؤية الحاضر أو المستقبل، إلَّا مِن خلال عدسة السرديات التاريخية. وأَنْ تَقضي الحياة تُحارب أعداءً، ليسوا سوى أساطير قد انتهت، يَعني انتهاءَ الحال بك، إلى إنسان غير قادر على رؤية فُرَص العدل والحياة الكريمة، في الحياة التي تَخصُّك.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive