الرجوع

العناوين ليست كافية

الإثنين

م ٢٠١٩/٠٧/٢٩ |

هـ ١٤٤٠/١١/٢٧

في أحد شوارع بيروت، أقَلَّتْني سيارة أجرة للقيام ببعض الجولات. في حديثي مع السائق، كانت لهجتي واضحة بأني لستُ لبنانيًّا، وكان السؤال الأول والمتوقَّع من سائق السيارة: "مِن أين؟". أجبْتُه: "مِن اليمن". قادته الإجابة إلى سؤال تالٍ: "مع أيِّ طرَف تقف في حرب السُّنَّة والشيعة في اليمن؟". حاولتُ أن أوضح له أن الحرب في اليمن ليست بين سُنَّة وشيعة، حتى أنَّ هذه الثُّنائيّة في التَّمذهب الديني ليست متداولة في اليمن.

"إذًا، أيَّ مذهبٍ دينيٍّ يتبع المسلمون هناك؟" سألني السائق مستغربًا. فأجبْتُه: "المذاهب التي يتحدث بها الناس في اليمن، مِنها مَذْهبا الشافعية والزَّيدية، وغيرهما". فقاطعَني بسؤال آخَر يتعلَّق بمَذهبَي السُّنَّة والشيعة. لكن، يبدو أن إجابتي لم تكن ملائمة لأرشيف التصنيف الموجود لدَيْه. لذا، غيَّر نمط الأسئلة بالسؤال التقليدي الموازي: "مع أيٍّ من الدول الإقليمية تقف؟".

بمعزل عن الإجابات، تبدو أسئلة كهذه بديهيَّةً وطبيعية جدًّا في حياتنا اليومية. نُرسلها إلى مَن حولنا، ونَسمعها منهم، ثم نقوم تلقائيًّا بتفريغ الإجابات أو دلالاتها، في خانات العناوين العريضة الموجودة لدينا سلَفًا. وحين يَظهر لنا عنوان غيرُ مألوف، نقوم باستخدام التصنيفات المخزَّنة في أذهاننا سابقًا، كميزان لتحديد مدى القرب أو البعد، للجديد من العناوين التي نسمعها. بعدها نقُوم بِبناء التصورات، وإطلاق الأحكام على مَن حولنا وَفْق هذه المعطيات الهشّة. والجزء الأهمُّ، هو أننا نتصرف وفقًا لتلك الأحكام غير المكتملة. فنُحبّ مَن يقترب من عناويننا المحبَّبة، ونَكره ونَنفر ونُعادي من يبتعد عنها.

عادةً ما يَميل تفكيرنا إلى الكسل المَعرفيّ، في فهم الأشياء والظواهر مِن حولنا. فنحنُ "تسهيلًا للأمر نَجمع الناس الأكثر اختلافًا تحت الاسم ذاته، وتسهيلًا للأمر نَعزُو لهم أيضًا جرائم وأفعالًا جماعية وآراء جماعية: لقد ذبح الصرب… لقد هدم الإنكليز… لقد صادر اليهود… أحرق السود… يرفض العرب… ودون أيِّ اضطراب نُطلق الأحكام على هذا الشعب أو ذلك. فهو شغِّيل، أو ماهر، أو كسول، أو حسَّاس، أو ماكر، أو متكبِّر، أو عنيد. وهذا ما يؤدِّي أحيانًا إلى إراقة الدم" (كما يقول أمين معلوف). ومع كارثيَّة هذه الأحكام المقدَّمَة، إلَّا أنها توفِّر لنا قدرًا من الراحة المعرفية، وإن كانت غير حقيقية.

أيضًا في إقرار الفرد بانتمائه إلى جماعات بعَيْنها، أو اتِّباعه لتيارات ثقافية أو دينية أو سياسية، فلا يعني ذلك أنه يتوافق مع تَصوُّراتنا، التي بنيناها في أذهاننا عن تلك الجماعات او التيارات؛ لأن الكثير من معلوماتنا عنها، عادةً ما تأتي من قنَوات قد تكُون غير صحيحة. وفضْلًا على ذلك، لكلِّ شخص فرادته، وتفكيره المستقلّ، ونمط سلوكه الذي قد لا يتوافق مع جميع الأفراد الذين يشاطرونه نفس الهوية. ولذلك، إنْ كنَّا مغْرَمين بهواية التصنيف، فعلينا أن نمتلك أدوات المعرفة وصبر البحث.

إنَّ مَقُولة: "الكِتاب واضحٌ من عنوانه"، ليست دقيقة. فهي مَقُولة تدعو إلى التسطيح في النظر إلى الأشياء، وأخْذِ فكرة عنها على طريقة النظرات العابرة. ومع أن عنوان أيِّ كتاب، هو كلمة أو كلمات دلاليَّة لمضمونه، يختارها المؤلِّف(ة) بعناية، إلّا أن ذلك العنوان ليس كافيًا ليُفصح لنا عن كلِّ ما يقع بين دفَّتَي الكِتاب. ثم إنَّ الوضوح الذي يتحدث به المَثل المذكور، لا يمثل كلِّيًّا هُويَّة النصِّ الذي يقع خلف العنوان. وفي إسقاطات المَثل على الواقع، يختلف الأمر قليلًا. ففي معظم الأحيان، نحن من نقوم بإلصاق العناوين على الناس. وبِناءً عليه، نقرِّر: إمَّا أن نَقْبلها، أو نضعها على الرُّفوف المهجورة، البعيدة عن اهتماماتنا أو تعامُلنا الجيِّد، أو ربَّما نَنصِب لها العداء تمهيدًا لحرقها في حروب الكلمات، أو ينتهي الأمر برصاص الحرب.

ظاهرة التنميط والأحكام المقدَّمة، ليست حصريَّة على الأفراد، بل صارت سلوكًا يُمارَس من قِبَل الجماعات والكيانات المختلفة. فالكثير من الجماعات تبني مواقفها تجاه الآخرين، من خلال الأحكام الجماعية المقدَّمة، على الكيانات والمجموعات الأخرى. ووَفْقًا لذلك، تصبح الأخطاء التي تَحدث على المستوى الفردي، نتيجة اتِّباع هذا النمط، أخطاءً كارثيّة، حين تتبنَّى الكيانات هذا النمط.

عند عودتي لليمن، ركِبتُ في سيارة "تاكسي"، لتُقِلَّني من المطار. "الحمد لله على سلامتك" قالها السائق، ثم ألْحَقَها بسؤال: "مِن أين وصلْتَ؟". قُلتُ له -مستحضرًا هُويّاتٍ وعناوين عدَّة-: "مِن لبنان". نظر إليّ السائق وأطلق سؤاله الطبيعي: "على من مَحسوب؟". أجبْتُه مبتسمًا: "على نفسي".

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive