الرجوع

العنصريّة في أميركا: سؤال متجدّد

الخميس

م ٢٠١٧/٠٨/١٧ |

هـ ١٤٣٨/١١/٢٥

ما تشهده حاليًّا بعض مدن الولايات المتحدة الأميركيّة، خاصة في ولايات الجنوب، من مظاهرات تحمل طابعًا عنصريًّا مقيتًا، وتنادي بالفوقيّة لأصحاب العرق الأبيض على سائر الأعراق، لهو مشهد مقزّز بقدر ما هو غريب، في مجتمع بلغ مستويات مهمّة من تحقيق المساواة وتأمين الحقوق والحريات لجميع مواطنيه، على اختلاف أعراقهم وخلفياتهم الثقافية والدينية. لقد اعتقدنا أن انتخاب باراك أوباما رئيسًا للبلاد في سنة 2008، توّج مسيرة طويلة من النضال لتحقيق المساواة الفعليّة، والتخلّص النهائي من جميع آثار العنصريّة في المجتمع الأميركي. ففي خطابه الشهير في واشنطن في 28-8-1963، كان قد أعلن القَسُّ المناضل مارتن لوثر كينغ: "لديّ حلم بأنّ هذه الأمّة سوف تنهض يومًا لتعيش المعنى الحقيقي لعقيدتها التالية: (نعتبر بأنّ هذه الحقائق بديهيّة بذاتها، بأنّ جميع البشر يُخلقون متساوين)".

بالطبع إن المتظاهرين، ومنهم من اعتمد العنف للتعبير عن مواقفه، لا يمثّلون الشعب الأميركي برمّته، ولا القاطنين في مدينة شارلوتزفيل، أو سائر مدن الولايات الجنوبية. وعلى الأرجح هم أقليّة، في مقابل أكثريّة ترفض العنصريّة وتتبنّى مبدأ المساواة بين الجميع. وللمسألة أيضًا تعقيدات تاريخيّة، لها علاقة بالحرب الأهليّة بين ولايات الجنوب التي أرادت المحافظة على نظام العبوديّة أو الرق، وولايات الشمال. دامت هذه الحرب من سنة 1861 إلى 1865، وانتهت بفوز الشمال. سقط في هذه الحرب الداخلية ما يقارب 750 ألف جندي أميركي، أي ما يزيد عمّا خسرته أميركا من جنود في الحربين العالميتين الأولى والثانية، إضافة إلى كل الحروب المتتالية التي خاضتها في الفيتنام وأفغانستان والعراق، حتى يومنا هذا. ما يعني أنّ المواقف الحاليّة تعبّر أيضًا عن ذاكرة مشحونة، لا تزال تحمل رواسب هذا الصراع القديم. فلقد تأجّجت المواقف المتباينة والخطابات العنصريّة، بسبب الخلاف حول إزالة بعض الرايات أو النُّصب التذكارية، التي تعبّر عن مرحلة الصراع هذه.

نتفاجأ ونحزن عندما نرى كيف تطفو فجأة فوق الواجهة مواقف، كنّا قد اعتقدنا أنّها أصبحت من الماضي، وقد جرى تخطِّيها بفضل القوانين والأنظمة التي تؤكّد احترام حقوق الإنسان والمساواة بين الجميع. ولكن ذلك يطرح أيضًا علينا السؤال التالي: هل تكفي القوانين والإجراءات السياسيّة والإداريّة لإزالة التمييز والظلم والعنصريّة من البنى المجتمعيّة، والرموز الثقافيّة، والذهنيّات الفرديّة؟

لقد أكّدت بوضوح المادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي اعتمدته الجمعيّة العامة للأمم المتحدة في اجتماعها المنعقد في باريس في 10-12-1948، أن: "لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي سياسيًّا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر". ولكن قد تكون المشكلة أنّ أغلبنا نسيَ أو غاب عنه ما جاء في المادة الأولى من الإعلان، التي اعتبرت أنّ "الإخاء" يجب أن يكون الطابع المميّز للعلاقات والمعاملات بين الناس جميعهم. إذ تقول المادة: "يولد جميع الناس أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وُهِبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضًا بروح الإخاء".

ربما تركيز الحقوقيّين والمناضلين في هذا المجال على البعد القانوني لتحقيق المساواة بين الناس، ومواجهة كل أشكال التمييز، أدّى إلى تهميش البعد الآخر للإعلان، ألا وهو تعزيز روابط الأخوّة بين الناس، ونشر المودّة في ما بينهم. ألم يحصل ذلك أيضًا للمبادئ التي قامت عليها الثورة الفرنسيّة سنة 1789، والتي كانت السبّاقة في إعلان شرعة حقوق المواطن والإنسان؟ لقد حدّدت هذه الثورة ثلاثة مبادئ، هي: المساواة، والحرية، والأخوّة. ومن الواضح أنّ الفرنسيّين ركّزوا في نضالهم على المبدأين الأولَين، ولم ينجحوا في زرع الثالث، بنفس القدر، في منظومتهم الاجتماعية والقيمية.

يبدو إذًا أنّ بناء دولة الحق والقانون لا يكفي للتغلّب الحقيقي على العنصريّة. إذ إنّ الظاهرة هي تعبير سياسي لإشكال اجتماعي وقيمي. فبموازاة المحافظة على المكتسبات القانونية والحقوقية وتعزيزها، يقتضي العمل على الروابط والعلاقات الاجتماعية، لتحقيق مصالحات حقيقيّة، تطوي صفحات من الأحقاد والصراعات وآثارها في النفوس وذاكرة الجماعات. المطلوب إذًا هو الارتقاء بالموقف القيمي من الاعتراف المحايد بحقّ الآخرين في الوجود والمساواة -ما تعنيه كلمة "تسامح"- إلى مستوى "الإخاء" والتضامن، الذي يجعل من المواطن مناضلًا ليس عن حقوقه وحسب، بل عن حقوق الآخرين قبل كل شيء. وهذا ما يتطلّب فهمًا متجدّدًا لحقوق الإنسان، لا يعزل الأفراد بعضهم عن بعض، وسياسات تعيد الروح إلى جسدَي السياسة والقانون.

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive