الرجوع

العِداء الثقافي ودعوات الانفصال

الأربعاء

م ٢٠١٧/١٠/١١ |

هـ ١٤٣٩/٠١/٢١

لم تتبلور بعدُ تبِعاتُ الاستفتاء على استقلال إقليم كوردستان العراق عراقيًّا وإقليميًّا، لكنها قد تكون فرصةً جديّة لمراجعة معاملة العرب للأقليات الثقافية والدينية التي تعيش على أراضيهم.

لسنا في موضع إبداء الرأي بشأن موافقتنا على استقلال الإقليم أو معارضتنا له، وإن كانت وحدة العراق تعنينا جدًّا، إلا أن أوكد حاجةٍ اليوم هي معالجة وضع الأقليات الثقافية والدينية على الأراضي العربية. فانتفاضة الكورد ليست استثناء، هناك انتفاضات متعددة للأمازيغ في منطقة القبائل الجزائرية ضد ما يسمونه "الحقرة" أي الاحتقار أو التهميش؛ وهذا ما يستدعي من العرب التعلم من أخطائهم والتحلي بالحكمة في التعامل مع جميع المكونات الثقافية.

يمثل كورد العراق 5 ملايين نسمة، وتاريخهم في المطالبة بحرية تقرير المصير طويل. يحفظ التاريخ انتفاضة الشيخ عبد السلام البارزاني مطلع القرن الماضي، حقٌّ جرى تدوينه عام 1970 في وثيقة أصدرتها الحكومة العراقية، ثم صدر قانون الحكم الذاتي لمنطقة كوردستان العراق عام 1974، وتحولت منطقة الحكم الذاتي بعد سقوط نظام صدام حسين في 2003 إلى إقليم كوردستان العراق.

لماذا طالب الكورد بحكم ذاتي؟ ولماذا يريدون الانفصال عن العراق اليوم؟

الحقيقة أن المسألة الكوردية لا تهم العراق فقط بل تهم سوريا وتركيا بشكل كبير، لكنَّ قاسمًا مشتركًا يجمع الكورد يتمثل بالشعور بالتهميش. هذا التهميش جرى تجاوزه (معنويًّا على الأقل) بتسجيل انتصارات البشمركة على داعش في عدة مواقع، انتصارات نقلها الإعلام الدولي على نطاق واسع، مُظهرًا بسالة المقاتلات والمقاتلين الكورد في وجه أكثر التنظيمات الإرهابية دموية، وهذا الانتصار كذلك تحول إلى ورقة رابحة للمطالبة بالانفصال عن العراق.

قصيرةٌ ذاكرة بعض العرب في استحضار مآسي الكورد، لكن مجزرة حَلَبْجة التي استخدم فيها صدام حسين الأسلحة الكيميائية لإبادة أطفال ونساء وعُجُز ورجال، لا تزال منحوتة على جدران الذاكرة الجماعية الكوردية، ولا تزال تمثل دليلًا يقدمه الكورد على الظلم والتصفية اللَّذَين استهدفاهم على مر العصور.

نحن نستبعد الصراعات الثقافية حتى لا نُقرّ بوجود متعصبين جيَّشوا الجماهير لتبنِّي عِداء ثقافي يُلغي الأقلية، يمحي لغتها، يطمس هويتها؛ وهذا ما يجعل من الشعور بالمظلومية لدى الآخر ينمو أكثر. مراقبون يقولون إن هذا "الصراع الثقافي الكوردي العربي" تحول إلى صراع جيو اقتصادي محوره حقول النفط، وهذا ما يجعله أكثر تعقيدًا. لكنْ ماذا عن العرب والتركمان الذين يعيشون في كركوك؟ هم بدورهم أقلية تعيش ضمن أغلبية كوردية، تعتبر نفسها أقلية في العراق.

هذا التداخل الهويَّاتي نسيجٌ قوي، وكل محاولة لبسط قوة خيطٍ واحد فيه على حساب بقية الخيوط ستمزق النسيج بالكامل. "إن كُلّ من يجاهر بهوية أكثر تعقيدًا يجد نفسه مهمشًا" يقول أمين معلوف في كتابه "الهويات القاتلة".

من فينا له هوية غير معقدة؟ من فينا لا يعيش صراع هوية في داخله وسط هذا التداخل بين الثقافات واللغات المكتسبة واللغة الأم؟ تراكُم المعارف، وتطوُّر حيَوَاتنا، ألا يجعل كل هذا من الهوية كيانًا متحركًا متطورًا منصهرًا في دورة العالم؟

لطالما سألوني: أنتِ أمازيغية أم عربية؟ هل جذورك أندلسية؟ هل أنت فرانكفونية؟ أنا كل هذا معجون بذاتي، هذا ما يجعل هويتي غير جاثمة في مكانها بل متعددة متنوعة، وقد تكون هوية "أكثر تعقيدًا" كما سمَّاها معلوف. لكن هذا التعقيد ليس مخيفًا، فأنا لا أشعر بالتهميش؛ لأَنِّي أعيش في انسجام وسلام مع بقية الهويات من حولي أيًّا كانت نظرة الآخرين إلى هويتي المتعددة.

هوية جاغميت سينغ (38 عامًا) الكندي من أصل هندي، والذي ينتمي إلى السيخ، لم تمنع ناخبِي الحزب الديمقراطي الجديد اليساري من انتخابه رئيسًا للحزب الأحد الماضي. هذا الرجل قد يصبح رئيس وزراء كندا مستقبلًا، لا عِرقُه ولا دينه منعاه من أن ينتمي حقًّا إلى كندا، ولم يمنعاه من ثقة الناخبين. أوَلَيست هويته "الأكثر تعقيدًا" حسب وصف معلوف؟ لماذا إذن لا يشعر بالتهميش؟ لأنه منسجم وفاعل داخل النسيج الكندي، فُسح له المجال ليثبت جدارته بعد أن أثبت انتماءه إلى وطنه الجديد.

هذا هو الدرس الذي يجعلنا نعمق ثقتنا بالتعددية والاختلاف. أَكتبُ هذا وصورةُ جثمان الرئيس العراقي السابق جلال الدين الطالباني مدثَّرًا بِعَلم كوردستان العراق عوضًا عن علم العراق، راسخةٌ في ذهني.

ربما هذا ما يدعونا إلى القلق والتأمل.

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبته ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive