الرجوع

العِرفان الخالص

الخميس

م ٢٠٢٠/٠١/٠٢ |

هـ ١٤٤١/٠٥/٠٧

لم تَسبق لي علاقة معرفة به، لا من قريب ولا من بعيد، بل إنِّي حتى لم ألتقِ به يومًا، لكنَّ غيابه المفاجئ منذ ثلاثة أشهر هزَّ كياني على نحو عظيم، وكأنِّي أفتقد فردًا من أسرتي. بدأَتِ القصة قبل سنوات. كُنتُ كما في كلِّ صباح أُباشِر فتْحَ بريدي الإلكتروني الخاص، ثم أطَّلع على حسابي في تويتر، وأقرأ الرسائل الخاصة فيه، وما فاتني منها. ومن بين الرسائل التي وصلتني على حين غفلة في تويتر، ولم تتوقف طوال سنوات، رسائل صباحية منتظمة لمُغرِّد أُردنِّيٍّ سِتِّينيّ، يبدأ رسالته بالسؤال عن صحَّتي وعن حال تونس، ثمّ يَشْرع فَورًا في الدعاء لي بشكل صافٍ صادِقٍ وباذخ في الكرم. هكذا ودون تخطيط، ولا سابق معرفة، نشأت علاقة أسمِّيها بـ"الأبوَّة الافتراضية"، بين أبٍ معنَوِيٍّ هو في الحقيقة "مغرِّد تويتر" وأستاذ وجَدٌّ لعِدَّة أحفاد، وفتاة تونسية عادية لا أولاد لها، بل فقدَت أباها قبل سنوات. في الحقيقة، لا أذكر في أيِّ وقتٍ تنبَّه "عمّو" أو أبي الافتراضي، على أنَّ أبي مُتَوفًّى منذ سنوات. وللأمانة، لا أذكر أول حوارٍ عامٍّ مباشر نشأ بيننا في فضاء تويتر، قبل تَلقِّي تلك الرسائل، التي صِرتُ أهرع إليها كل صباح، كما لو كنتُ أفتح رسائل أبي الشخصية على الهاتف. على مَرِّ أربع سنوات، انتظمَت علاقتي بأبي أيْ "عمُّو" من خلال الرسائل الخاصة، وكانت تبدأ بالدعاء السَّخيِّ لي ولأسرتي في كلِّ جوانب حياتي، ثم تتمنَّى لي راحة البال. وقد تتشعَّب أكثر لتتناول حال بلادنا العربية. كان دائم السؤال عن تونس التي لم يزرها قطّ، ومع ذلك كان يتابع أخبارها أوّلًا بأول. فيَفرح بكل إنجاز ديمقراطي، ويَحزن لكلِّ انتكاسة في مسار الديمقراطية، أو لكلِّ كارثة اجتماعية، أو لإفلاس يُنذر بسقوط مُدَوٍّ. هكذا، نَسجَت علاقتي بـ"عمُّو" (أبي الافتراضي) خيطانًا تَماسكَت على مرِّ السنوات، لتصبح أسلاكًا متينة. كانت لعمو مَلَكة عظيمة. فمع أنه لا يراني، إلّا أنه كان يستشفُّ من تغريداتي ألمًا جسمانيًّا ألَمّ بي، أو ثقبًا في الروح وقع على حين غِرَّة. حينها، يبادر إلى رسالة يُهوِّن فيها من المصاب، ويُطْنِب في نصحي بتقليم حساسيتي المفرطة، وبوضع خطة "باء" لمخرج طوارئ مستعجل. كانت لِعمُّو مَلَكات كثيرة حبَاه الله بها: عطوف، رحيم، كريم، غير فضولي، عزيز النفس، قادر على تقييم مسافة القرب متى تبدأ وأين يجب أن تقف. أخذَت علاقتنا الافتراضية -التي لم أتحدث بها مطلقًا إلى مخلوق إلَّا من خلال هذا النص، بسبب اختفائه المفاجئ حين طال-، منعرَجًا كبيرًا، حين فقدتُ عمي الوحيد قبل 3 سنوات بسبب السرطان. تلك المحنة قصَمَت ظهري مرة أخرى، وقرَّبَتني من عمِّي "الحقيقي" على نحوٍ موجعٍ إلى درجة العطب النفسي، ووضعتني في مواجهة مع قسوة المرض، وكيف يدكُّ الإنسان دكًّا، ويغيِّر فيزيولوجيته، ثم يتغلغل في شذرات النفس فيُفتِّتها، بحيث لا تَقْوَى على جمعها. ظهر عمِّي "الافتراضي" مرة أخرى في تلك المحنة، ليَشدّ من أزري ويذكِّرني بأنها "سُنَّة الحياة"، وبأنَّ عودتي من غربتي لكي أكُون إلى جوار عمي في أيامه الأخيرة، هي حكمة إلهية. بقليل من الكلمات كان يَحشوها في رسائل خاصة في تويتر، أَمْسك "عمُّو الافتراضي" يدي ليَعبُر بي صحاري الفقدان وقِفار الروح. درَّبني كما لو كان "معلِّمي الخاص" على مسح الدموع بكفِّ اليد، والاتِّكاء على اليد الأخرى، لأقف وأُواصل الحياة. كان يكرِّر على مَسمعي أن الحياة صراع ومِحنٌ واختبارات على الصبر، وأنَّ الله وحده يعرف مغزاها. لكن، أجملُ مِن كلِّ ذلك، أنَّ في عزِّ العتمة، أنار عمِّي "الافتراضي" شمعة لا تنطفئ في ركن الرسائل الخاصة في تويتر، ليقول لي فيها: لا تَنسَيْ أني أبوك الروحي وعمك الافتراضي، وإن كان من المحال أنْ أحلّ مكانَيهما. عمي الافتراضي الذي أبحث عنه اليوم، علَّمني أن العطاء ليس عملية حسابية بين الله وعبده، ولا هو مَوعد محسوم يَنظر فيه المؤمن إلى ساعته، ليحاسِب اللهَ متى يَهبُهُ ما طلَبه. فقد وهبني الله في لحظة ما هدية عظيمة لم أطلبها: شخصًا حقيقيًّا يدعو لي في ظهر الغيب، وهو لا يعرفني ولم يلتقِ بي. هذا الشخص لخَّص لي معاني العرفان والعطاء غير المشروط، والمحبة الخالصة والإنسانية غير الراكدة، بل المتحركة في بحار الكرَم الروحي. وحيٌ من الله كان يأمرني: "تَعالَيْ"، وكأنه إيماءة سحرية تشدُّ أزري، حين أعتقد أني على وشك الوقوع. "عَمُّو"، أفتقدك كثيرًا؛ وأُصلِّي لكي تكون بخير.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive