الرجوع

القراءة السهمية: آفاق جديدة لتفعيل القرآن في الحياة

الإثنين

م ٢٠٢٠/١٠/٢٦ |

هـ ١٤٤٢/٠٣/١٠

لا بد من الإشارة في البداية، إلى أنني قد استعرتُ لفظة “القراءة السهمية للقرآن” من المفكر التونسي محمد الطالبي، وذلك لترجمة فكرةٍ فصّلتُ شرحها والحديث فيها في نص باللغة الألمانية، وهي تدور حول إمكانات تفاعل النص القرآني مع الواقع الإنساني المتجدد. القراءة السهمية للقرآن لا ترمز إلى مجرد قابلية القرآن الكريم لتأويلات مختلفة فحسب، بل وأيضًا إلى انفتاحه على إمكانات خصبة لإنتاج معانٍ جديدة، أشار إليها النص إشارة عابرة دون أن يسميها أو يتعرض لتفاصيلها. أشير أيضًا إلى أنني حين أستخدم لفظة “إشارة”، لستُ أقصد المعنى الصوفي، أي أنني لا أتحدث بتفسيرٍ إشاريّ للقرآن يسعى لإبراز معانٍ باطنة فيه، بل أقصد الإشارة التي تعطي قارئ القرآن وجهة الطريق، التي تجعل من القرآن كتابًا ناطقًا في سياقنا اليوم.

لما كان القرآن هو تجلِّي الرحمة الإلهية -حسب ما ذكرنا من قبل-، ولما كان موضوع الرحمة هو نواة الرسالة المحمدية وهدفها: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالَمين} [الأنبياء: 107]، فإن اتجاه القرآن السهمي هو اتجاه الرحمة، أي أن قارئ القرآن اليوم، عليه -وفق هذه القراءة السهمية التي أقترحها- ألَّا يقف عند اللفظ القرآني ويحاول تطبيقه كما هو، بل عليه أن يُكمل الرحلة التي بدأها القرآن في سبيل تحقيق معاني الرحمة، حسب سياقه الخاص الذي يعيشه.

من أهم هذه المعاني حسب ما ذكرتُ في مقالة سابقة، كَونُ الإنسان هدفًا في ذاته، وليس وسيلة إلى تحقيق هدف ما. فلا نجد في القرآن مثلًا آية تُحرِّم الرق (أيْ شراء العبيد أو اقتناءهم)، بل إن هناك تشريعات قرآنية تسعى لتجفيف منابع الرق كالمُكاتَبة، وهي طلب الرقيق حريته مقابل أداء قيمة مالية لسيِّده (انظر سورة النور، الآية 33). كذلك شرَّع القرآن عتق الرقاب المستعبَدة (أيْ تحريرها)، بوصفها كفَّارة لبعض الذنوب والممارسات كالقتل الخطأ (انظر سورة النساء، الآية 92)، أو عدم التزام الوعد من خلال القَسَم (انظر سورة المائدة، الآية 89). هذه التشريعات تدفع باتجاه إلغاء الرق، لكنها لا تلغيه تمامًا لعدم جاهزية ذلك السياق لتَقبُّل هذا التشريع الثوري.

أما سياقنا اليوم، فإنه يتيح لنا إمكانية تحقيق الرسالة النبوية بتحرير الإنسان من الرق، ومِن ثَمَّ تكملة الطريق الذي بدأه القرآن. ينطبق هذا على أمثلة كثيرة، مثل إمكانية تتمة الطريق الذي بدأه القرآن بتحويل دور المرأة من تابعة للرجل متعلقة به، إلى كونها مستقلة بذاتها تملك أمرها بيدها. فإعطاء البنت نصف نصيب أخيها مثلًا (انظر سورة النساء، الآية 11)، كان خطوة اجتماعية ثورية نحو تحرير المرأة من اعتمادها على مال الرجل، ليصير لها مالُها الخاص، ولتَحمل مع الرجل المسؤولية الاقتصادية، ممَّا اعترض عليه بعض الصحابة. أما سياقنا اليوم، فيسمح لنا بتحقيق مراد القرآن من تحرير كَون المرأة تابعًا، حتى تصير إنسانًا حرًّا يملك شروط تحديد مصيره بيده.

إذن لا بد من مراعاة السياق الاجتماعي لفترة تبليغ القرآن، حيث كانت هذه الآيات آنذاك تحمل إشارات واضحة باتجاه التغيير. إنه تحرير الإنسان من كل أنواع التبعية، السياسية منها أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وقبل كل شيء الفكرية. ولكن، دون أن يتمكن سياق التنزيل في القرن السابع الميلادي من إنهاء الطريق الذي يبقى مفتوحًا، وتبقى مسؤولية السير فيه أمانة في عنق المسلمين. يخطئ بعضهم حين يُحمِّل القرآن ما لا يحتمل، فينتقد القرآن من جهة أن تشريعاته تتعارض وحقوقَ الإنسان، ويتهم الإسلام بمعاداة الإنسانية. هذا النقد مُحقٌّ إن أصرَّ المسلمون على الوقوف بالقرآن في سياق القرن السابع الميلادي فقط، دون متابعة قراءته وفق معطيات القرن الـ٢١.

السؤال إذن لا ينبغي أن يكون عن النص القرآني وما يقدِّمه من معانٍ حرفية، بل عن كيفية تعامل المسلمين اليوم مع القرآن. فهل نأخذه على ظاهره ونتعامل معه على اعتبار أنه كتاب مغلق، لا يحتمل معانِيَ جديدة أشار إليها دون أن يفصِّل فيها؟ أم هل نقرَؤُه على اعتبار أنه كتاب مفتوح لا يمكن إغلاقه، والاقتصار فيه على معانٍ معدودة؟ القراءة السهمية للقرآن تسعى للإبقاء على تفاعل بنَّاء مع كل سياق، والمحافظة على انفتاحه باتجاه تحقيق إنسانية الإنسان في واقعه المَعِيش، بأكبر قدر ممكن من الفعالية. ألم يَصِف القرآنُ نفسُه كلماتِ الله بأنها لا تتناهى؟ {قُل لو كان البحر مِدادًا لكلمات ربي لَنَفِدَ البحرُ قبل أن تَنْفَد كلماتُ ربي ولو جئنا بمِثله مَددًا} [الكهف: 109].

مع أن القرآن سكت عن معظم تفاصيل حياتنا، فإنه أكد: {ما فرَّطْنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 38]. ذلك لأنه بيَّن للإنسان اتجاه التغيير، وكلَّفه السعي وراء تحقيق هذا التغيير. فلا تصبح قراءة القرآن مجرد ترتيل لآياته، بل تحقيق لمجتمع يكون فيه الإنسان مكرمًا بوصفه هدفًا في ذاته. وبهذا، يعود تفعيل القرآن من أجل خدمة إنسانية الإنسان. وهنا، يجب أن تكون لنا وقفة مع تلك الآيات القرآنية، التي تُهدِّد الإنسان وتتوعده. فكيف نقرؤها اليوم قراءة لا تتعارض والحديثَ عن تكريم الإنسان؟ لنا مع هذا السؤال وقفة في المقال الآتي بإذن الله..

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive