الرجوع

الكفر والضلال في المعنى

الإثنين

م ٢٠١٧/٠٥/٠١ |

هـ ١٤٣٨/٠٨/٠٥

مع بساطة المعاني اللغوية لكلمة "كفر" في اللغة العربية، والتي تدل على تغطية الشيء وحجبه، إلا أن هذه الكلمة قد حُمِّلت أوزار صراعات وخلافات كثيرة، جعلتها تختزل كل معاني القبح والبغضاء والفساد واليأس من رحمة الله.

يدل الكفر بمعناه العَقدِيّ على القطع بهلاك الإنسان، وخروجه من رحمة الله، وإطلاق هذا الحكم لا يقع ضمن مسؤولية الإنسان، وإنما هو أمر متروك لله الذي يعلم ما تخفي الصدور، ويفصل بين خلقه يوم الحساب، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17].

وإذا كان المصطفى عليه الصلاة والسلام ليس له أن يحكم على مصائر الناس {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9]؛ فكيف يحق لأناس ينتسبون إلى الإسلام، أن ينصبوا أنفسهم قضاة على مصائر العباد؟!

فالإنسان قد يخطئ في الأمور الاعتقادية الكبرى، ولا يخرج من رحمة الله، وهذا كما في قصة الرجل الذي قال لأبنائه: "إذا أنا مُتُّ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليمِّ، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابًا ما عذّبه أحدًا من العالمين. ففعلوا به ذلك، فقال الله: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك. فغفر له". (البخاري) فهذا رجل شك في قدرة الله على البعث، وشك في اليوم الآخر، وهذا يعتبر كفرًا عند كثير من أتباع الأديان، لكن رحمة الله وعنايته، شملته وجعلته جديرًا بالمغفرة. إن الأصل في الإنسان هو الخير، وهذا هو المنطلق الذي يجب أن ينظر من خلاله المؤمن إلى الناس جميعًا، مهما كانت أسماؤهم. والكفر هو أمر طارئ، لا يعدو أن يكون غلافًا يحيط بقلوب جعلها الله مستودَع معرفته.

لا يدرك كثير من المؤمنين أنهم عندما يرمون من ليس على ملتهم بالكفر، ويخرجونهم من رحمة الله، فإنهم بذلك قد جعلوا دينهم "دين أقلية"، وإلهَهُم "إله عشيرة". فأكثرُ أتباع ديانة في العالم لا يتعدى نسبتهم 30 % من عدد سكان العالم.

وقد وقع كثير من أتباع الأديان على مر العصور، في استغلال مسألة التكفير، لإغلاق أفواه المعارضين لهم، كما هو الحال في أحكام الحرمان "الأناثيما" في الكنيسة الغربية، أو كما أشار القرآن في نقده لسلوك بعض المسلمين الذين يبحثون عن الغنائم، ويحتجُّون بذريعة كفر خصومهم {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء: 94]. وما تزال هذه المشكلة تمثل المنطلق الأول لخطاب الكراهية، الذي أفضى إلى استباحة الدماء وخراب العمران.

إن التدبُّر في معنى قوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: 35]، يجعلنا نكتشف تركيز القرآن على المضمون السلوكي للكفر، والذي يتصل بالظلم والعدوان والفساد. وهنا لا يكون الكافر مَن وُلد على ديانة وَجد عليها آباءه وأجداده، أو توقَّف عنِ اتِّباع ديانة لم يألفها، وإنما يكون الكافر هو الذي يظلم ولا يعدل، ويبغض ولا يحب، ويلعن ولا يرحم، ويفسد ولا يصلح، من أي دين أو طائفة كان.

وأما المؤمن الحق، فهو من يدافع عن حقوق الناس في كرامة العيش وحرية الاعتقاد، ولا يحجبه إيمانه بدينه عن رؤية إيمان غيره، فالناس عنده إخوة، وأبناء أب ونبي واحد.

من أسوأ أشكال الضلال أن يصبح التكفير شهوة، تبحث عن أي شبهة لإقصاء الآخر وحرمانه. وهنا يتسع معنى الكفر ليشمل كل من لم يكن على الدين أو المذهب نفسه، وهذا التضخم في التكفير يؤكد وجود خلل في جوهر الفهم الديني. فعندما يكون الدين طقوسًا جامدة، ومقولات مفارقة للعقل، واستحواذًا على الحقيقة؛ فإن الدين يفضي إلى الاستخفاف بعقائد الخلق، وبُغضِهم وتكفيرهم.

أما عندما تزداد معرفة المؤمن وحكمته، فإن آفاق الرؤية تتسع عنده، ويدرك أن لكل إنسان مبلغه من العلم، ونصيبه من الضلال، وأن كثيرا مما يحسبه الناس كفرًا، ليس سوى ما خفي عنهم من معاني الوجود، وألوان الحقيقة.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive