الرجوع

الكوارث بين غضب الله ومسؤولية الإنسان

الثلاثاء

م ٢٠١٨/١١/١٣ |

هـ ١٤٤٠/٠٣/٠٥

يتساءل بعض العقلاء: لماذا عندما يحدث زلزال في اليابان بقوة تتعدَّى 6 درجات مثلًا، فإنه يجرح بضعة يابانيِّين، في حين يموت آلاف الباكستانيِّين عندما يحدث زلزال بنفس تلك الدرجة؟

يرى كثير من الناس أن وقوع الكوارث ناتج من غضب إلهي على الإنسان، لِما يقترفه من مَعاصٍ وذنوب. ويعتقد هؤلاء أن التفسيرات العلمية لهذه الكوارث، هي مجرد فهم مادِّي سطحي للمشكلة. والعجيب أن بعض الدعاة مِن حملة الشهادات في العلوم والجيولوجيا، لا تختلف تصوراتهم عن أبسط الدعاة الذين لا حظَّ لهم في المعارف العلمية والجيولوجية! وهذه النظرة تُسوِّغ الاستخفاف بالمنجَزات العلمية الإنسانية، وتفتح الباب أمام استغلال الكوارث، كمَدخل إلى استقطاب متديِّنين جُدد لا يستوعبون سُنَن الخالق في خلقه.

موت الأطفال الأبرياء نتيجة الأمراض أو الكوارث، يمثِّل إشكالًا قديمًا حيّر عقول المؤمنين، ولم يَجد أكثرهم تفسيرًا له في سوى خطايا الآباء. فاعتقاد أن هذا العالم هو مكان للعقاب الإلهي، يسيء إلى العدالة الإلهية، حيث نرى قتل المظلومين والأبرياء، والحياة الرغيدة للأشرار والمعتدين. ومن هنا، يؤكد القرآن أن الدنيا ليست دار عقاب: {ولو يؤاخذُ اللَّهُ النَّاس بما كسبُوا مَا تركَ علىٰ ظَهرهَا مِن دابَّةٍ ولكن يُؤخّرهُم إِلىٰ أجلٍ مُّسمًّى} [فاطر: 45]. إن علاقة الأعاصير والعواصف بغضب الله، هي كعلاقة نسمات الهواء العليلة برضا الله. فكلٌّ من الأعاصير والنسمات العليلة يُصيب الأخيار والأشرار والحيوانات. فهل القحط الذي أصاب المسلمين عامَ "الرمادة" في عهد عمر بن الخطاب، كان غضبًا من الله على الصحابة والتابعين؟ وهل يصيب هذا القحط مجتمعات بعينها دون غيرها؟

قد يستشعر الإنسان في تأمُّله للكوارث الطبيعية شيئًا من المعاني الروحية، التي تساعده على بناء نظرة أعمق للحياة، تستوعب آلامها ومعاناتها كما تستوعب جمالها وروعتها. ولكن النظام الكوني السُّنَني الذي أبدعه الخالق، لا يَخضع للعواطف والمفاهيم الدينية لأَتباع الأديان. فالجميع خاضعون لقانون واحد: {إن تكونُوا تألمُونَ فإنَّهُم يأْلمُون كما تألمُونَ وتَرجُونَ من اللَّهِ ما لا يرجُونَ} [النساء: 104].

لا بد من إعادة التفكير في الخطاب الديني الذي يذكِّرنا بالخطاب "القُروسطي" للكوارث، كما حدث في بلاء مرض الطاعون الأسود "الموت العظيم"، الذي اجتاح أنحاء أوروبا بين عامَي 1347 و1352، وتَسبَّب في موت ما لا يقلُّ عن ثُلث سكان القارة. وكان خطاب الكنيسة الغربية يتجه إلى تفسير الكارثة، بأنها عقاب إلهي بسبب الذنوب والخطايا. وهذا يؤكد أن الكنيسة لم تدرس رد القدِّيس أوغسطينوس في كتابه "مدينة الله"، عندما اتَّهم الوثنيون الرومان المسيحيين بأنهم سبب سقوط روما سنة 410 للميلاد، وتدميرها على يد القوط الغربيين! ورد عليهم القدِّيس أوغسطينوس بِناءً على فكرة القانون الطبيعي، الذي يَفصل بين المعتقدات الدينية، والقوانين والسنن الاجتماعية والطبيعية.

لم يَخلق الله العالم وَفْق منظومة السُّنَن التكوينية عبثًا، وإنما لِيَدفع الإنسان إلى البحث عنها والأخذ بزمامها، ليكون هو الخليفة في الأرض بالفعل، لا بمجرد القول والادِّعاء. إن ظهور الفساد في الأرض يتصل في جانِب منه بسلوك الإنسان، ولكن معنى الفساد لا يتوقف على الجانب الأخلاقي، وإنما يتصل بالنُّظم الاقتصادية والسياسية والمعرفية. وهذا يعني ضرورة البحث في علاقة هذه الكوارث بالتغييرات البيئية، وزيادة التلوث، والإشعاعات النووية، والضرر الذي تُخلِّفه المصانع والنُّظم الاستهلاكية. ولا ننسى أيضًا ما تخلّفه الأنظمة الدكتاتورية من الضحايا والدمار، الذي يفُوق ما تُحْدثه العواصف والزلازل والبراكين، وغيرها ممّا نسمِّيه كوارث طبيعية.

إن الجزم بأن تلك الكوارث عقوبة من الله لأهل بلد أو منطقة ما، هو ادِّعاء غير صحيح. فالكوارث يمكن أن تقع في قيعان المحيطات أو في أيِّ مكان، وقد تَفنى أجناس معيَّنة من المخلوقات، كما حدث مع الديناصورات قبل ملايين السنين، ولم يكن لأيٍّ منها ذنب يُغضب الخالق.

تزداد قدرة الإنسان على التنبُّؤ بوقوع الكوارث واتِّقاء شرِّها، مع زيادة معرفته للسُّنَن التي أودعها الله في خلقه. ويمكننا اليوم -ومن خلال عِلم الأرصاد الجوية وما تُقدِّمه الأقمار الاصطناعية من صُوَر وبيانات-، أن ننقذ حياة الملايين من الناس قبل وقوع الأعاصير والكوارث. وهذا يمثِّل واجبًا أخلاقيًّا وإنسانيًّا، يعكس احترام الحياة البشرية، التي جعل الله أجر مَن أحْيَا نفسًا واحدة منها، كأجر مَن أحْيَا الناس جميعًا.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive