الرجوع

اللاهوت الصِّراطيّ

الإثنين

م ٢٠١٨/٠١/١٥ |

هـ ١٤٣٩/٠٤/٢٨

يغرس اللاهوتُ الصِراطيّ في كلِّ الأديان شعورًا عند الإنسان بأن رحمةَ الله مختصّةٌ به وبأتباعِ معتقده، وأنهم من دون سواهم يفوزون بالنجاةِ والخلاصِ من العذابِ. ويغذّي ذلك على الدوام اعتقادَه أنه يستطيع احتكارَ رحمةِ الله، بوصفها من الممتلكات الخاصة التي يستحوذ عليها معتقَدُه، ويظل يتوهم أيضًا أنه قادرٌ على حصرِ الرحمةِ الإلهية في أتباعِ ديانته، واستبعادِ كلِّ الناس الذين هم خارج معتقده منها.

لاهوتُ الأديان الإبراهيمية القديم لاهوتٌ ِصِراطيّ، بمعنى أن كل ديانة ترى أنها هي الحقّ وما سواها باطل، وأن أتباعَها يَحْظَون بالخلاص ويفوزون بالنجاة في اليوم الآخر. لكنَّ مَجْمَع الفاتيكان الثاني بين عامَي 1962 – 1965، تَجاوز مقولةَ النجاة هذه عندما منح الخلاصَ لكلِّ المؤمنين وإن كانوا خارج الكنيسة، وهذا يعني أن مجمعَ الفاتيكان استطاع -ولو متأخرًا- أن يتناغم ومنطقَ الحقوق والحريات في الحداثة الغربية. لكنْ، ما زالت أنساقُ اللاهوت الصِراطيّ تُغذّي مشاعرَ عدد غير قليل من المسيحيين، ممن يظنون ألَّا نجاةَ خارج حدود الكنيسة. وقد اشتهر في الإسلام حديثُ الفرقة الناجية، وشادَ المتكلمون الأسسَ لانحصار الحقّانيَّة والنجاة، ومعظمُهم كان يحاول احتكارَ ذلك للفرقة الناطق باسمها. هاجسُ المتكلّم هو المناظرةُ في إثبات حقّانية مقولاته الاعتقادية، والمحاججةُ لدحض حقّانية ما سواها. وتشكِّل هذه المقولات بمجموعها منظومةً اعتقاديةً واضحةَ الحدود، على نحوٍ يمكن الاستناد فيه إليها، بوصفها معيارًا للتعرّف إلى كلِّ ما يقع في إطارها من آراء، ونفي ما هو خارجها. وتتألف المنظومةُ الاعتقاديةُ من رؤيةٍ للعالم، وتصوّرٍ مَصُوغ بعناية لصورةِ الله، ونمطِ علاقة الإنسان به، وكيفيةِ الارتباط به، تنتظم في سياقها مدونةٌ فقهيةٌ ترتسم فيها كيفيةُ العبادات والأحكام، على نحو تتطابق وجهةُ المدوّنة الفقهية فيه مع ما تشير إليه المنظومةُ الاعتقادية. وترى بعضُ المذاهب، خاصة السلفية، أن كلَّ ما هو خارج عنها من آراءٍ وفتاوَى اجتهادية في العبادات، هو مُروقٌ وابتداع. مُتكلِّمو كلّ فرقة يحتكرون صورةً لله، بعد أن ينحتوها في سياق مواقفِهم ومقولاتِهم الاعتقادية، وآفاقِ انتظارهم، مع أن اللهَ تعالى لا صورةَ حسيّة له. صورةُ الله هي أولُ ممارسة تأويلية اجترحها البشر، إذ نَحت أوائلُ البشر على صورتهم صورةً لله، ثم استمر بنو آدم يصوّرون اللهَ على صورهِم المتنوعة، المنتزَعةِ من عوالمهم المتنوعة. بنو آدم لا صورةَ نهائية يَصِلون إليها؛ لذا فإن اللهَ بلا صورة نهائية. اللاتناهي هنا هو لاتَناهي وَعْيِ بني آدم، وتأويلِهم. وعادة ما يُحكَم بالمروق على كلِّ من يتبنَّى معتقَدًا خارج الصور النمطية الراسخة لله عند الفرق الكلامية، في حين تكون النجاةُ في الآخرة هي المآلُ الطبيعي لأتباعِ هذه المنظومة الاعتقادية.

لقد حاول المتكلمون التَّوَكُّؤَ على المدوَّنة الحديثية في خلع المشروعية النَّصِّيّة على مقولاتهم لتبرير موقفهم الاعتقادي، إذ تداولوا هنا مروياتٍ نبويةً، تتحدّث بالفرقة الناجية والفرق الهالكة، وشاع في آثارهم حديثُ (افتراق الأمَّة إلى بضع وسبعين فرقة)، وهو حديث موضوع يؤكد أن الفرقةَ الناجيةَ دائمًا واحدةٌ، أي إن كلَّ فرقة تحتكر النجاةَ لنفسها، في حين تعتقد هلاكَ ما سواها. الخلاصُ دائما نصيبُ فرقة واحدة، لا تتعدّد، والعذابُ نصيبُ عشرات الفرق الأخرى غيرها.

وبمرور الزمن تفشّى لاهوتٌ صِراطيّ بالتفكير الكلامي، لا يقبل في دائرة الإيمان والنجاة إلاّ الفرقةَ الناجية، في حين يُخرج كلَّ فرقة أخرى غيرها من دائرة الإيمان، ولا يمنحها حقَّ النجاة مهما كانت اعتقاداتُها واجتهاداتُها. ومن حقِّ كلِّ إنسان أن يعتقدَ ما يراه حقًّا، لكنَّ التعبيرَ العنيفَ عن المعتقَد اعتداءٌ على حياةِ الفردِ والمجتمع، سواءٌ جسديًّا كان ذلك التعبيرُ العنيف، أو لفظيًّا، أو رمزيًّا.

لقد أفضى اللاهوتُ الصِراطيّ إلى تقويضِ مرتكزات العيش معًا، في فضاء التنوّع والاختلاف. ففي ضوءِ منطق هذا اللاهوت لا يمكن بناءُ أسس حقيقية للتعايش في مجتمع، أو دولة حديثة واحدة، تقوم أسسُ المواطنة فيها على مساواةِ المواطنين في الحقوق والواجبات كافة، بِغضِّ النظر عن معتقداتهم وآرائهم وأعراقهم.

في فضاء اللاهوت الصِراطيّ يجري تصنيفُ أفراد المجتمع الواحد عموديًّا، بتراتبية اعتقادية، تجعل من يعتنقون المعتقدَ الرسمي في المرتبة الأولى، في حين يُوضع مَنْ سواهم في مراتِبَ دُنْيا، لا ترقى إلى مقاماتهم السامية. وتبعًا لذلك أيضًا، تتحدّد لائحةُ حريات كلِّ فرد وحقوقه ومسؤولياته في المجتمع، لا على أساس إنسانيتِه، أو مواطنتِه، أو انتمائِه إلى بلد يعيش الكلُّ فيه متساوين شركاء، بل على أساس ولائه ومعتقده. وقد تَجسَّد ذلك تاريخيًّا في نظامِ الملل العثماني، وشيوعِ أحكام أهل الذِّمَّة، ومكانةِ غير المسلمين في دولة الخلافة والدولة السلطانية، وهو ما تحكيه لنا التجربةُ التاريخية للاجتماع الإسلامي عبر العصور، من تمييز وتراتبية عقائدية اجتماعية سياسية. وحتى لو تمكن بعضُهم من تبرير هذه التراتبية قبل عدة قرون في دول الخلافة والسلطنة، لكن كيف يتمكن اليوم من بناء دولة حديثة في سياق المدونة الكلامية والفقهية، التي تصنّف المواطنين على حسب معتقداتهم؟

من المؤسف أن أدبياتِ الجماعات الدينية تتحدّث بالديمقراطية وحريات الإنسان وحقوقه، بأسلوب تلفيقي ذرائعي. فهي من جهة تدعو إلى دولةٍ مدنية حديثة، وتُصوّت على دستورٍ يكفل المساواة بين المواطنين، ويمنحهم حريةَ الاعتقاد والتعبير عن معتقداتهم، لكنها من جهة أخرى تتبنَّى ما ورد في المدونة الكلامية والفقهية، ومقولاتها التي تشدّد على انحصارية اعتقادية، دون أن تتدبر النُّشوزَ الصريحَ بين المبادئ الدستورية للدولة المدنية الحديثة، وما تتشبّث به من مقولات صِراطيّة تحصر المعتقدَ في لون واحد تفرضه على الكلّ، بل تتهم أيةَ محاولة لاستئناف النظر في المدونة الموروثة بالعداء، لتراثِ الأمة ودينِها وقيمِها.

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive