الرجوع

المتجهون إلى بيروت

الأربعاء

م ٢٠٢٠/٠٨/١٢ |

هـ ١٤٤١/١٢/٢٣

مرحبًا بيروت! البارحة وقفتُ أمام مرفئك، أتفحص الندبات. أندُبك في داخلي خفية، أطيل النظر في الهواء، أرفع بصري وأنكسه، فأرى بعضك المتناثر فيّ وفيكِ. أمد يدي إلى القاع، أرفع بقايا زجاج، أميط جرائد قديمة تمسكت بك مثلي في لحظة الانفجار. انسحب إلى شوارعك العتيقة، وأسند ظهري إلى جدارك الحزين. عَبثًا أحاول صرف نظري عن المرفأ، تجاه بعض مبانيك الصامدة، فيهزمني انكسارها. أعود إلى البيت، أقف على الشرفة، ألتفت نحو الجبل، فيقابلني بوشاحه الأسود. أترك المنزل وأعود لمحيط المرفأ، لأقضي الوقت بجوار نوافذك المكسورة. ومن بيروت الأمس، إلى بيروت الغد، أحاول التجديف، وفي القلب أمل أن أجدك.

أنا واحد منهم، من أولئك الذين قصدوك، حين ضاقت الأرض بأحرفهم. سِرت إليك ذات صباح، وأنا أحمل قلبي على كفي. قبل المجيء، قالت لي رؤيا في إحدى ليالي صنعاء المقمرة: “اذهبْ إلى بيروت ريثما أعود”. وقد أتيتك بقدَر. لم أكلف نفسي طرق بابك. أدركتُ منذ البدء أن مدينة مثلك، هي أكبر من أن يغلِق باحاتِها باب. عند مقدمي، سمعت على طاولات مقاهيك لهجات أقلام عدة، فسكنتُ.

بيروت، أنتِ لا تعرفينني، لكني أعرفك. أجدك في تفاصيلي، في الذكريات التي تملَؤُني، في قائمة أصدقائي، في أحاديثي، في الهواء، في الماء، في لحن الأغنية، في يقظة الصباح، وفي سهاد الليل. أعرفك والفضل لك. فأنت لا تتذكرين كل من سكنوا فيك وسكنتِ فيهم. طبع المدينة الكريمة أنها لا تتذكر. لا تتفحصين الوجوه في أزمنة الكرم. تمنحين الدفء في “كانون”، وتعطينا بردًا وسلامًا في “آب”. وما بينهما وخلالهما، تقدمين أغصان الكرمة والزيتون بمزج فرحك المعهود.

من قال “إن المنتمين إليك هم من وُلدوا فيك فقط”؟ وماذا عنا نحن الذين وُلدتِ فينا؟ بِتِّ تكبرين في أعماقنا، بشوارعك القديمة، بمتاحفك، بدروبك المتعرجة، بجمالك الفوضوي. أسافر إلى المدن البعيدة، ولا أجدني إلا فيك. في المطارات أسمع أصوات النداءات الأخيرة: “المتجهون إلى بيروت”. فيخيل إليَّ أن العالم كفتان، إحداهما بيروت، والأخرى بقية مدن الدنيا.

أتذكَّر حين قدمت أول مرة. قضيت وقتًا أتفحص المدينة. لوحات بُن المخا وجدتها في مقاهي بيروت، أحاديث المثقفين عن اليمن، وجدتها في صالونات بيروت، الكتب والمدونات التي تسرد حكاياتنا على رفوف مكاتب بيروت. أسماء القرى تشبه قرى الأرض التي قدمت منها. كانت المدينة تُمنِّيني بفرص رؤية اليمن من خلالها، تمامًا كما كانت تفعل جدتي، حين تكسر حزني بعرض “ألبوم” صورنا القديمة. قلمُك المكسور، وقلبك أيضًا، والذكريات الممزقة، ترممهم هذه المدينة بطريقتها.

الحديث عن بيروت، هو حديث عن صنعاء، ودمشق، وبغداد، وكل مدننا المقهورة. بيروت هي آخر ما تبقَّى لنا من مدننا الكونية. المدن التي تقبلك كما أنت، لا تسأل مجتمعاتُها فيها عن تفاصيل لونك أو دينك أو لهجتك، إلا من باب شغف الاحتفاء بالتنوع. عشت في بيروت، دون أن أُضطر يومًا إلى أن أكون شخصًا غير نفسي. لا أحتاج إلى أن أغير لهجتي أو أتقمص شخصية غيري. فما زلت بعد سنوات فيها، أنطق حرف القاف مشبعًا دون تعديل. تمنحك بيروت فرصة التعلق بالأشياء خاصتك، كيفما كانت. وتحتضنك بالرثِّ من ذكرياتك، مهما أثقلَتك.

ها أنا ذا أعود من محيط المرفأ. في طريقي إلى البيت، عند ملتقى الطرق بين عين الرمانة والشياح، شيخ سبعيني يبيع الصحف، وصوت خافت يأتي من حانوته الصغير، أغنية تعلو وتخفت حينًا: “لبيروت من قلبي سلام”، تَنفض عن وجه المدينة غبار الشك والخوف.

بيروت، قُومي إكرامًا للإنسان.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive