الرجوع

المرأة والأم بين سرير طفلها والعالم

الخميس

م ٢٠١٩/٠٣/٢١ |

هـ ١٤٤٠/٠٧/١٥

مُذيعة في الشارع مع ميكروفون، في برنامج فولكلوري على التلفزيون السوري، تسأل الأطفال عن عيد الأم، ليبدأ بعدها حديث تحليلي بِدَور الأمّ في المجتمع، وبأنّها مَن يربّي الجيل، وبأنّ المرأة التي تَهزّ السرير بيمينها، تهزّ العالم بيسارها، والكثير من الشعارات الرنانة، المعلّبة والجاهزة، التي لا أتَّفقُ مع معظمها، وقد أتَّفق مع بعضها في سياقاتٍ أخرى.

كانت تلك المقولة تُثير اهتمامي كطفلة. كنتُ أتخيّل أنّ السريرَ على اليمين، والكرةَ الأرضيّة إلى اليسار، وأُمًّا مُرهَقة جدًّا تجلسُ على كرسيّ بينهما، وأنّها لتتمكّن من هزّ الاثنين معاً، عليها أن تكون قويّةً جدًّا. لذا، كنتُ أَرسُم لها عضلاتٍ في اليد اليسرى فقط، لأنّ السرير ليسَ بِحَجْم الكرة الأرضيّة. كان يحيِّرني حجم هذه الكرة، التي يجب أن تهزّها. ومع الوقت وجدتُ حلًّا بديلًا، بأن أربط السرير بالكرة الأرضية. وفي هذه الحالة، سيهتزّ السرير تلقائيًّا عندما تهزّ العالم. لم يَحمل هذا الحلّ في حينه أيّ رمزيّة. فالترميزات حوله أتت لاحقًا.

كنتُ طفلة بطبيعة الحال، ولم أكن قد كَوّنتُ رأيي الكامل حيال الموضوع. لكن، ما أَعْلمهُ جيّدًا، أنّ هذا العيد لم يناسبني يومًا. كان يُشعرني بالنفور، ولم يشجِّعني يومًا على أن أكون أمًّا. فهو يَحصرُ دور الأمّ في التضحية، ثم يأتي عيد الأمّ باحتفالاته ورسائله المبطَّنة، قمعيًّا شرسًا، يَلبسُ قبَّعة المحقِّق اللطيف الذي لا يمارس العنف، لكنّهُ يحقِّق نفس الهدف. يَرسمُ هذا العيد صورة مثاليّة للمرأه الأمّ، التي يصفّقُ لها الجميع، ومِنْ ثَمَّ يضع على كاهل مَن شذّت عن القاعدة، ضغطًا اجتماعيًّا لا يَرحم. يهاجم كلّ دورٍ يمكن للمرأة أن تلعبهُ، عدا كَونِها أُمًّا.

الأمّ هي رمز التضحية، وواجبها أن تضحّي. وكلّما زادت بالتضحية، ارْتقَت بالأمومة. دور الأمّ ينحصر في أن تجهّز الحياة المثاليّة لأولادها. وفي حال نشوب خلاف مع الأب، فالأمّ هي المسؤولة عن اتخاذ القرار الصائب، بالتحمّل غالبًا. فغيْرُ ذلك هو تقصير في التضحية. والأمّ هي مَن تطبخ وتعتني وتسهر على راحة الجميع في المنزل، وكأنّ شخصيتها في الكامل تُمسح لحظة يَنبضُ قلبُ صغيرٍ ما في داخلها، وتتحوّل هُويّتها -مهْما كانت سابقًا- إلى أمّ فقط. فتصبحُ سعاد هي أمّ فقط، وكذلك جنى وسمر وليلى... إلخ، وتَنْحلّ شخصياتهنّ ضِمن هذا الوعاء الجامع، فتصبحُ مشاكلهنّ واحدة، وسعادتهنّ واحدة، حتّى صُوَرهنّ تصبحُ واحدة، وكأنّ اتِّفاقًا ضمنيًّا ما، يجعلُ كلّ تصرفات النساء اللواتي يُنجبنَ واحدة. فيُرسِلْنَ أطفالهنّ إلى المدرسة، أو يدخلن المطبخ بعد أنّ يرتّبن الغرف، أو يقمن بالغسيل والتنظيف والطهي، أو ينتظرن عودة أولادهنّ من المدرسة، أو عودة أزواجهنّ من أعمالهم، ثم يتابعن أدوارهنّ كأمّهات فقط.

نُربَّى كإناثٍ، بطريقةٍ تعزِّز فكرة أنّ الأمومة هي حالة من التضحية الجميلة، التي نَكبر فيها، لنتعلّم أن نستمتع بها فعلًا. ففي صِغَرنا نُعطَى دُميةً لنقومَ بالعناية بها، ونتلبّس دور أن نكون "أمهّاتٍ جيدات"، هذه الكلمة العجيبة. فالجيّدات هنا ليست شيئًا نسبيًّا، بل هي تَعني بالضرورة أن نضحّي بكُلِّيَّتنا، وإلّا فأيُّ شيء يَحصل لأطفالنا، فهو ذنْبُنا نحنُ. نطبخُ أطيبَ الطعام لأطفالنا، نهتمُّ بنظافتهم، نعتني بأزواجنا. وفي المقابل، نحصل على الاحتفال بيومٍ في السنة، في عيد الأمّ، الذي هو بِدَورهِ مصمَّمٌ بطريقةٍ عجيبة، لشُكر الأمّ على تضحياتها التي لم تختَرْها بالضرورة.

كان بعض الأصدقاء يمزحون، فيَذْكُرون أنّ الهديّة التي يقدِّمونها لأمهاتهم عندما لا يجدون المال، هي القيام بدلًا عنهنَّ بـ: "جَلْي الجَلْيات"، أو "الطبخ عوضاً عنها"، أو "ترتيب غرفهم"... إلخ. ولطالما وجدتُ أنّ هذا الواقع نفسَهُ، يختصر الحكاية. فنستطيع أن نقول إنّه في هذه الحالات، يتحوّل عيد الأمّ إلى "يوم إجازة" فقط.

في بداية ثُلاثينيّاتي، لا يمكنني إلّا أن أفكّرَ في موضوع الأمومة والإنجاب. هل أُنْجب يومًا؟ وهل أُصبح في يوم من الأيام أمًّا؟ فساعةُ الزمن تَتِكّ مُنْذرةً!

لا أعلم هل كنتُ سأُنجبُ يومًا، لا أشعر بهذا التطلّع أبدًا، لكنني أَعْلمُ جيّدًا أنني إن أنجبتُ، لا أريدُ أن أكون الأمّ التي تضحّي وتسهر وتفقد كينونتها، لأعيش مع أطفالي ضِمنَ قفص الشعور دائمًا بالرغبة في التضحية أكثر، وتحميل أبنائي مسؤولية "ردّ الجميل"، وتحسيسهم بأنهم مهْما فعلوا، لن يكون بمقدار ما ضحَّيتُ بهِ لأجلهم؛ وإنّما سأُغرقهم في الحبّ، سأغرقهم في الاستقلاليّة، وسأربطُ سريرهم بالعالم.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive