الرجوع

المصطفى والمسيح

الثلاثاء

م ٢٠١٧/١١/٢٨ |

هـ ١٤٣٩/٠٣/١٠

كثيرًا ما يتساءل الباحثون في تاريخ الفكر الديني، عن سر العلاقة التي يمكن أن تجمع بين شخصيتين كبيرتين شكَّلت تعاليمهما أعظم ديانتَين على وجه الأرض، ويزيد عدد أتباعهما اليوم على نصف سكان المعمورة.

لم يستطع كثير من أتباع المسيحية والإسلام، الصعود باتجاه منابع التعاليم الروحية التي تفجَّرت منها أنهار الحكمتين العيسوية والمحمدية: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6]. فعندما ندرك أن المحبة هي جوهر تعاليم المسيح (الله محبة) "تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. هَذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى وَالْعُظْمَى. وَﭐلثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ" (مَتَّى 22: 37-39)، وأن هذه المحبة هي ذاتها منبع الرحمة التي تمثل تعاليم المصطفى (الله الرحمن)، كما في قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]؛ فإنْ أدركنا هذه الوحدة الجوهرية، نكون قد وضعنا أيدينا على الحقيقة الجامعة التي تتلهف عليها قلوب العابدين.

من أجمل النصوص وأعمقها التي تصف علاقة المصطفى بالمسيح عليهما السلام، قول المصطفى: "أنا أَوْلَى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة، الأنبياء إخوة من عَلَّات، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد، وليس بيننا نبي" (رواه البخاري). وهذا التعبير العميق يؤكد وحدة الحقيقة التي ينهل منها الإخوة من أب واحد، وأيضًا يشير إلى أن اختلاف الأمهات هنا، إضافة إلى اختلاف الشرائع والثقافات والمصطلحات، لا ينفي أخوَّة الأنبياء ووحدة ديانتهم، وإن خفيت معاني تلك الوحدة على كثير من أتباع كل منهما.

لقد أطلق القرآن على عيسى عليه السلام ألقابًا كثيرة امتاز في بعضٍ منها عن سائر الأنبياء، مثل: كلمة الله، روح من الله، آية من الله، رسول، نبي، عبد الله، غلامًا زكيًّا، مبارك، وجيهًا في الدنيا والآخرة، من المقرَّبين.

ومن أعظم النماذج الإسلامية التي تدل على مكانة عيسى ومحبته بين المسلمين، ما ذهب إليه مُحيِي الدين بن عربي في الفتوحات المكية، من أن عيسى عليه السلام هو ختم الولاية العامة: "وأما ختم الولاية العامة الذي لا يوجد بعده وليّ، فهو عيسى عليه السلام".

لقد نادى كل منهما بالعفو عن الخصوم، فقال المسيح: "أحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ" (متى 5: 44). وكما دعا المسيح لأعدائه: "يا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ" (لوقا 23: 34)، فقد غفر المصطفى لأعدائه الذين قاتلوه من قريش عندما رجع إلى مكة، بعد أن وجَّه إليهم السؤال: "يا معشر قريش: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا، أخٌ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهَبُوا فأنتم الطُّلَقاء" (سيرة ابن هشام).

ونحن الآن على أبواب ذكرى المولد، وعيد الميلاد، لا بد لنا أن نتنبَّه على أن الاستبشار والتبشير بميلاد الأنبياء، هو نهج أكَّدهُ القرآن في ثلاث مناسبات: الأولى في تبشير الملائكة "سارةَ" زوجة إبراهيم عليه السلام بميلاد إسحق {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71]؛ والثانية في تبشير الملائكة مريم عليها السلام بميلاد المسيح {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران: 45]؛ والمناسبة الثالثة التي تعود بنا إلى خصوصية العلاقة بين المسيح والمصطفى، وفق الخطاب القرآني، نجدها لدى المسيح عليه السلام، وكان هو الوحيد الذي صرّح بميلاد المصطفى بالاسم {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6].

لمَّا كان التبشير بميلاد الأنبياء نهجًا قرآنيًّا، فإنه يحق لكل مؤمن أن يستبشر بِميلادَي المصطفى والمسيح عليهما السلام، وأن يجعل من هاتَين المناسبتَين إعلانًا للأخوَّة، بين أتباع رسول الرحمة، ورسول المحبة.

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive