الرجوع

المعاملة بالمثل وأخلاقيات الصراع

الإثنين

م ٢٠١٧/٠٣/٢٠ |

هـ ١٤٣٨/٠٦/٢٢

تُمثل الأخلاق المعيار الأول لصدق الإنسان وتجلِّي معاني الخير الذي فيه، وهي تتفوق على التصورات العَقدِيّة النظرية، التي قد تكون مجرد صور ذهنية متوارثة، لا تسهم في تقويم سلوك الإنسان والارتقاء به.

إلى جانب الدمار، والخراب الذي لحق بمجتمعاتنا العربية اليوم، كان هناك خراب آخر يتمثل باختلال القيم الأخلاقية واضطراب مفاهيمها. ومن أكثر المقولات التي استُعملت في توليد مسلكيات مضطربة، أَضرّت بالقيم الأخلاقية في مجتمعاتنا الإنسانية، مقولة "المعاملة بالمثل"، والتي تُرادف في دلالاتها مقولة "العين بالعين، والسِّن بالسن".

إن منطق "العين بالعين"، هو منطق قديم سبق نزول التوراة، والإنجيل، والقرآن. فقد جاء في شريعة حمورابي (القرن الثامن عشر ق.م): "إذا كَسر سيّد عَظْم سيد آخر، فعليهم أن يكسروا عظمه، وإذا اقتلع سيِّد سِنَّ سيد من طبقته، فعليهم أن يقلعوا سنَّه". وكان ذلك قبل أن تقول التوراة: "الكسر بالكسر، والعين بالعين، والسن بالسن" (لاويين 20:24)، وقبل أن يشير القرآن إلى ذلك في قوله: {وكَتَبْنا عليهم فيها أَنَّ النَّفْس بِالنفس} [المائدة: 45].

تُمثل شريعة "العين بالعين، والسن بالسن" صيغة أولية للعدالة. فالقصاص لا يُمثل غايةً للسلوك الأخلاقي، وإنما يمثل تشريعًا يتناسب والمستوى الأخلاقي لِبني إسرائيل، ولغيرهم من الشعوب في ذلك العصر، تمامًا كتشريع الطلاق الذي قال المسيح في تعليل تشريعه: "فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ كَتَبَ لَكُمْ هذِهِ الْوَصِيَّةَ" (مرقس 10: 5).

لم يتوقف الأنبياء عند مقولة "العين بالعين"، وإنما سعوا إلى الارتقاء بأَتْباعهم من خلال أنموذج آخر من السلوك البشري، ينتقل من الانفعال بالمظلومية والعدوان، إلى تزكية النفوس، ومواجهة أسباب الظلم في المجتمعات الإنسانية، وبناء القيم الإنسانية الجامعة التي ترى في كرامة الإنسان ووجوده غاية دينية، وحقًّا إنسانيًّا لا يتزعزع.

يُمثل البحث عن منطق أخلاقي يستعلي على الانتقام والغضب، سِراطًا صعبًا لا يَقوَى على الولوج فيه سوى أناس انتصروا على أنفسهم، ونزعوا جذور الغضب من قلوبهم. وفي هذا السياق، نجد نماذج حيَّة نجح فيها الخُلُق الإنساني، واستعلى فوق منطق المعاملة بالمثل.

ومن هذه النماذج، ما فعله النبي محمد (ص) في فتح مكة، عندما صفح عن قريش الذين أخرجوه، وآذوه، وقتلوا أصحابه، ولم يقابل الإساءة بالإساءة. وفي أنموذج آخر، نجد موقف الشيخ عمر المختار، عندما اقترح عليه أحد الثوَّار إبَّان الاحتلال الإيطالي، أن يقتلوا ضابطا إيطاليًّا كانوا قد أسَرُوه، مبرِّرًا ذلك بقوله: "إنهم يقتلون أَسْرانا". فأجابه الشيخ: "إنهم ليسوا قدوة لنا". وفي ذات السياق، دافع الأمير عبد القادر الجزائري عن المسيحيين في سوريا أثناء الفتنة الطائفية، مع أنَّ المحتلِّين للجزائر كانوا أيضا مسيحيين.

لقد أصبح منطق المعاملة بالمثل ذريعة لتقويض أصالة الفعل الأخلاقي، وجَعَل السلوك البشري مجرد انفعال غريزي، وليس سلوكا أخلاقيًّا يرتقي بالفرد والمجتمع. وبِاسم المظلومية، والاحتلال، والفقر، والمعاناة، أصبحنا نجد مَن يُسوِّغ -وبِاسم الإسلام- قتل الأطفال، والنساء، والمدنيين.

عند الصراع، يخلع كثير من الناس أثواب الفضيلة، ويرتدون أقبح الأثواب، وتصبح الفظائع والجرائم "أخلاقية"، ومستساغة. وفي الجهة الأخرى، تظهر معادن الناس وأخلاقهم السامية، عند الخصومة والنزاعات.

يجب أن ندرك أنَّ مقابلة الجريمة بالجريمة يفضي إلى انتصار الظالمين، وأن المستضعفين إنما ينتصرون عندما يدركون قيمة العدالة، والثبات على المبدأ.

ليس العفو ضعفًا وانكسارًا أمام قوة الظالمين وجبروتهم، وإنما هو قوة تتجاوز رغبة الانتقام والانفعال بالمظلومية. فالعالَم لم يكن بحاجة إلى مزيد من العيون المفقوءة، والأيدي والأرجل المقطعة، وإنما كان ينقصه الرحمة، والإحسان، وتكميل مكارم الأخلاق.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive