الرجوع

المفتي الذي أوصى بالامتناع عن الفتوى

الإثنين

م ٢٠١٩/٠١/٢٨ |

هـ ١٤٤٠/٠٥/٢٢

بكثير من الجرأة وقدْرٍ غير هيّنٍ من الحكمة، خرج مفتي الجمهورية التونسية "عثمان بطيخ"، آخر كانون الأول/ديسمبر الماضي، ليعلن أنه "لا يحقُّ إصدار فتوى بخصوص إقرار المساواة في الميراث".

هذه الدعوة تأتي في غمار سجال مستَعِرٍ في تونس، بين رجال الدين والمجتمع المدني والمحامين والمواطنين والمواطنات، وبين مرحِّب بالمساواة في الميراث بين الرجل والمرأة ورافضٍ لها. وكان مجلس الوزراء التونسي قد صدَّق الجمعة 23 تشرين الثاني/نوفمبر، مشروعَ القانون الذي تَقدَّم به الرئيس الباجي قائد السبسي، لتنقيح أحكام المواريث في مجلة الأحوال الشخصية (مجموعة قوانين مدنية جرى سنُّها عام 1956، أبرزُها منع تعدُّد الزوجات)، بشكل يُرسي المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث. وهذه الخطوة عملاقة، تُحيل المقترَح إلى البرلمان لصياغة مشروع قانون بشأن المساواة في الميراث، ثم نقاشه.

لن نعود للحديث بموضوع المساواة في الميراث، الذي تعتزم تونس بسطه على طاولة النقاش العامّ تحت قبّة البرلمان، لتكشف لنا خبايا النوايا. فكم من تقَدُّميٍّ يعارض المساواة! وكم من إسلاميٍّ يرحِّب بشجاعة بها! لكن موضوعنا هنا هو: وقف الفتاوى.

لماذا بادر مفتي تونس إلى الدعوة إلى عدم الإفتاء في المساواة، في وقتٍ سارع فيه الأزهر إلى إصدار فتاوى عدَّة تردُّ على خطوات تونس؟ الحقيقة أن مفتي تونس قدّم الدستور على العِمامة -إن صحَّ التعبير-، وآثَرَ الوَحدة الوطنية على أيِّ اعتبارات أخرى قد تكون مجرَّد اجتهادات شخصية. فاعتَبر أن الدستور يَضمن لبعض الشيوخ إصدار الفتاوى، لأنها تدخل في خانة حرية التعبير، وقال حرفيًّا: إن الفتاوى المتشدِّدة لا يمكن تتبُّع أصحابها، لكن مقاومتهم "تكُون عبر الحوار والفكر". لقد تفطَّن المفتي التونسي لِخطورة استخدام الفتاوى في زرع الفتنة، وبثِّ التفرقة، وحرمان فئةٍ من المجتمع حقوقَها. وبكثير من الإقدام، وضع هذا المفتي حدًّا فاصلًا بين العلم والدين والسياسة، رافضًا الخلط بين المكوِّنات الثلاثة لِما في ذلك من خطورة.

الدَّعَوات إلى الامتناع عن الفتاوى حتى لا ينجرَّ عنها اقتتالٌ داخلي، هي من الحكمة، لا سيما وأن بعض الفتاوى يتغير بمرور الزمن. في الآونة الأخيرة طرأت ظاهرة الفتاوى الموسمية، وهي بِدَورها لا تقلُّ فتنةً، بل ربما هي الفتنة عينُها. ففي أعياد الميلاد المجيدة، تَظهر أصوات تحرِّم تهنئة المسيحيين، وتَصدر في كلِّ كانون الأول/ديسمبر فتوى جديدة تحرِّم معايدة المسلم لأخيه المسيحي، أو جاره، أو زميله، أو حتى أيِّ مسيحيٍّ بشكل عامّ.

لعلَّ أخطر هذه الفتاوى ما حدث في العراق في كانون الأول/ديسمبر الماضي، حين خرج مفتي أهل السُّنَّة والجماعة "مهدي الصميدعي"، ليُفتي في حُرمة احتفال المسلمين بأعياد رأس السنة الميلادية؛ ما جعل 63 عائلة مسيحية عراقية ترفع دعوى قضائية ضده، لتهديده سلامة العوائل المسيحية. فالعراق الذي اكتوى ولا يزال بنار الفتنة، فقُتّل مسيحيُّوه وهُجِّروا من ديارهم، مثلما قُتلت فئات دينية أخرى وتقاتلت، ما زال هشًّا. وكلُّ فتوى تَصدر كفتوى الصميدعي، من شأنها تمزيق المجتمع العراقي أكثر فأكثر.

الفتوى سلاح، وَيَا له من سلاح، سلاح يراه بعضهم مقدَّسًا، مع أنه اجتهاد مِن شخص قد يصيب وقد يخطئ. حينها يأخذ المقدَّس بُعدًا أخطر، يصبح فيه اجتهاد الإنسان، طريقةَ حياة مجموعاتٍ وأوطان بأسرها.

قبل عقود، ظهرت في بعض الديار فتاوى تحرِّم الغناء والموسيقى والفنون بأشكالها، كذلك جرى تحريم قيادة المرأة السيارة. وفجأة، وبين عشيَّة وضحاها، تلاشت هذه الفتاوى، وظهرت قبل مدة وجيزة فتاوى تنفي الفتاوى القديمة، وتبيح ما جرى تحريمه في عقود سابقة. فلا قيادة المرأة السيارة حرام، ولا الموسيقى حرام، ولا الغناء من فعل الشيطان. تساقطت المحرَّمات التي بقيت ثابتة على مدار عقود، وبلمح البصر اختفت؛ ما يثير الدهشة. فكيف تُدار الفتاوى بهذه البساطة، بين تحريم مُطلَق مُجْمَع عليه، وإلغاء مفاجئ لذلك التحريم؟ ومع ترحيبنا برفع التحريم، إلّا أن المشكلة اليوم، أن مَن يُفتي في تحليل ما حُرِّم، مطالَب بإقناع مَن تبنَّى التحريم، وتصويب ما جرى اعتقادُه عقودًا على أنه نشاز عن الدين. فكيف نصوِّب العقول، ونُقرّ بأن تلك الفتاوى القديمة كانت ضربًا من التشدد والقسوة الخارجَيْن عن سماحة الدين؟

رُبَّ مُفْتٍ امتنع عن الفتوى رأفةً بالخلق، وحبسًا للفتنة، ورفعًا للمصلحة العامة والشأن الإنساني. وذلك لعمري أقربُ إلى الله، لكونه صان دماء الاحتقان المذهبي والديني، حتى الوطني.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive