الرجوع

المونديال ورُهاب الدين

الأربعاء

م ٢٠١٨/٠٦/٢٧ |

هـ ١٤٣٩/١٠/١٤

صُلبانٌ وأهِلّةٌ على الصدور والزنود، عيونٌ تُرفع إلى السماء ومعها تُبسط الأيادي، سُجودٌ هنا وعلامة صليب هناك. تتكرر هذه المشاهد في الملاعب في "المونديال" وخارجه، إيقاعٌ طبيعي لفئة من البشر نسميهم "لاعبين"، يتشابه مع إيقاع بقية البشر في الحياة اليومية.

في الشرق كما في الغرب، لا توجد ملاعب "متديِّنة" وملاعب "غير متدينة". توجد لعبة، واللاعب حرٌّ في طقوسه وشعائره، والمهم أداؤه. لكن هذا الأمر لم يَعُد بديهيًّا يا للأسف!

سِجالٌ اندلع في تونس مع انطلاق كأس العالم لكرة القدم في روسيا، بعد أن قام مدرب المنتخب التونسي نبيل معلول، بتلاوة الفاتحة مع اللاعبين في حجرة الملابس. المحلل السياسي التونسي مختار الخلفاوي، اعتبر سلوك المدرب واللاعبين والجهاز الفني "بدعة وشعوذة"، في حين اتَّهم الإعلامي محمد بوغلاب المدرب نبيل معلول بالرّياء. من جهتها، اعتبرَت الجامِعيَّةُ التونسية رجاء بن سلامة أنّ "تلاوة اللاعبين والمدرب الفاتحة، علامة من علامات فقدان الثقة".

الحقيقة أني لم أرَ سِجالًا كهذا في تونس عن تلاوة الفاتحة من قِبل لاعبين، بل أذكر أننا شاهَدْنا مِرارًا لاعبي المنتخب والنوادي المحلية، يتلون الفاتحة ويمسحون على وجوههم قبل أن تدوس أقدامهم أرضية الملعب، وكان الأمر يمرُّ بشكل عادي دون أن يثير تعليقًا أو استهجانًا.

ما الذي تغيَّر؟ هل صارت هذه العلامات الدينية تثير حساسية لدى فئة تعتبر نفسها "النخبة" في تونس؟ هل هو رُهاب الدين الذي لا يختلف في خطورته عن التطرف الديني؟

غيْرَ بعيدٍ عن هذا المشهد، شاهَدْنا اللاعب الألماني المسلم "أوزيل" يتلو الفاتحة قبل المباراة. مشهد لم يقابله الجمهور الألماني بالتصفير، ولا قابلته الصحافة الألمانية بالسخرية والنقد. هو الاحترام لمعتقدات اللاعبين وشعائر دياناتهم أيًّا كانت، شعائر لا تخصُّ أحدًا ولا حتى دافِعي الضرائب.

اِستحضرتُ مشاهد عديدة للمهاجم الأوروغواني إدينسون كافاني، وهو يصلي قبل كل مباراة. كان يعتبر فوز فريقه "هدية من المسيح". ومِثله اللاعب الأرجنتيني ميسي، الذي يرفع سَبَّابتَيه للسماء شكرًا لله بعد كل هدف. لاعبون مسلمون في فرنسا مثل الإيفواري ديدييه روغبا، أو سمير نصري وفرانك ريبيري (ينتميان إلى المنتخب)، كانوا كذلك يُصلُّون قبل كل مباراة. وطبعًا لا ننسى الأسطورة مارادونا، وهو يرسم الصليب قبل كل مباراة وبعد كل هدف، وهي عادة حملها معه حين أصبح مدرب المنتخب الأرجنتيني، وطوَّرها لتصبح صلاة جماعية مع اللاعبين، تمامًا كتلك الفاتحة التي تلاها معلول مع المنتخب التونسي.

تخيَّلتُ مشهد السِّجال معكوسًا في مجتمع علماني آخر، بل عريق بعلمانيته: المجتمع الفرنسي. لنتخيل المشهد: ماذا لو قامت الصحافة الفرنسية بالسخرية من صلاة اللاعبين المسلمين؟ ماذا سيحدث؟ لماذا تُصرُّ بعض الجهات على تحويل هذه اللعبة (كرة القدم)، التي تجمع شُعُوبًا وأعراقًا وديانات مختلفة، إلى فرصة للتسفيه والسخرية من الشعائر الدينية، ولِانتقاص قيمة لاعب أو فريق، فقط لأنه أظهر إيمانه؟

لماذا تتحول الفرص القليلة للتلاقي بين الثقافات والجنسيات واللغات، إلى فرص للطعن في جدوى العلامات الدينية لهذا أو ذاك، كمن يجتهد في خلق فرص إضافية للترهيب من الدين، بعد شيطنة غير المتدينين؟!

أليست هذه العلامات الدينية جزءًا خاصًّا من الاستعداد النفسي لكل لاعب؟ أليس حرًّا في اتِّخاذ ما يرتاح له من شعيرة دينية أو تميمة؟

ما الفرق بين تلك الدائرة التي يلتفُّ حولها اللاعبون كتفًا بكتف لشحن معنوياتهم، وتلاوة الفاتحة؟ ألَيْسَتَا استعدادًا نفسيًّا في الحالتين؟

أستحضرُ ما قام به المدرب الفرنسي العلماني "غي رو" مدرب أوكسير، الذي لجأ إلى إمام جامع في باريس، ليسأله ما الذي عليه فِعله مع لاعبيه المسلمين في رمضان حتى لا يجهدهم. هل هذه البادرة حَطَّتْهُ عن قيمته الفنية كمدرب، أو عن قيمته العقائدية كغير ديني؟ قطعًا لا، لقد خطا ذلك المدرب بكثير من الحرص على لُحمة فريقه، نحو تطبيق فعلي لمبدأ احترام معتقدات الآخرين.

الملاعب قد ترسل رسائل بالمحبة والسلام، بالعزيمة والانتصار، بالصبر والتفاني. وأيضًا قد ترسل رسائل بالعنف والكراهية، بالعنصرية وانعدام الاحترام.

ما حدث في حجرة ملابس المنتخب التونسي أمرٌ خاصّ ومقدس، لا لأنه إسلامي، بل لأنه إنسانيٌّ وعفويّ وعقائديّ شخصي، لفريق كان يستعد لمواجهة خصم قد ينتصر عليه وقد ينهزم أمامه. كل ما حدث كان دعاء لله بالتوفيق، فتَحوَّل إلى مشهد جُلد بسببه المدرب واللاعبون، بكثير من الاستعلاء والادعاء. والحال أن غير المؤمن لو أصابه داء، لقال بالتونسية: "يا ربِّي".

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive