الرجوع

النسوية ليست مستورَدة من الغرب

الثلاثاء

م ٢٠٢٠/٠٩/٢٩ |

هـ ١٤٤٢/٠٢/١٢

يتعرض كل حَراك نِسويّ لهجوم مبني على افتراضات أن الحركة غربية، وأن الهدف منها غربنة النساء وإخراجهن من الثقافة والدين، في حين يجد القارئ في التاريخ الحديث للدول العربية والدول النامية، ما يؤكد أن الحراك النسوي كان -وما يزال- جزءًا من الحراك الوطني، في كل بلد سعى لاستقلاله من الاستعمار وتوابعه.

لقراءة تاريخ الحركات النِّسْوِيّة في “الدول النامية”، كان يجب أن أخوض غمار واحد من أكثر الكتب البحثية أهمية، ألا وهو كتاب “النسوية والقومية” للكاتبة “كوماري جايا واردينا”، حيث تؤكد الكاتبة من خلال استعراض الحركات النسوية ونشأتها، أن النسوية لم تُفرَض على “العالم الثالث” من الغرب، بل إن ظروفًا تاريخية أنتجت مواد مهمة وتغيّرات إيديولوجية أثّرت في المرأة. بحثُ الكاتبة شمل دولًا تتشابه في كونها خضعت لقوًى أجنبية أرادت فرض سيطرتها عليها، ونهْب خيراتها مع اختلاف أيديولوجياتها وثقافاتها. فبعضها دول أيديولوجيتها إسلامية، مثل: مصر وإيران وتركيا، وأخرى ثقافتها هندوسية أو بوذيّة أو كونفشيوسيّة: كسيريلانكا والفلبّين وفيتنام.

لا تنفي الكاتبة الدور التوعوي الذي حمله الطلاب الدارسون في أوروبا في تلك الفترة، الذين تأثّروا بالثقافة الغربية، كما حصل في مصر في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، عندما كان أعمدة التنوير مُفكّرين درسوا وتأثّروا بالثقافة الفرنسية، وعادوا ليكتبوا عن ضرورة تحرُّر المرأة ودعَوا إلى تعليمها. وساهم هؤلاء العمالقة في بناء مصر الحديثة. هؤلاء الأدباء والكتّاب والمفكرون هم أوّل من بدأ الحَراك من أجل تحرير المرأة، قبل أن تطالب هي نفسها به بصوت عال. وهذا ليس لخللٍ في تركيب المرأة، بل لأنها كانت محرومةً التعليمَ والسفر ورؤية النماذج الأخرى.

كان من الطبيعي أن يطالب الرجال أوّلًا بحرية المرأة. فهُمُ الذين اطّلعوا على نتاج تعليم المرأة، الذي عاد بالقوة والثقافة والحضارة على الدول التي درسوا فيها. وكانت كتاباتهم التنويرية سببًا في ظهور حركة فكرية تناقش وضع المرأة، اشترك فيها نساء ورجال. وأيضًا ساهموا في حركة الترجمة الناشطة للكتب المهمة، التي زادت الوعي ورفدت الثقافة. وكان من آثارها أن زاد عدد الراغبين في تعليم بناتهم منزليًّا، قبل أن تُفتح المدارس وتشهد إقبالًا جيّدًا، هذا التعليم الذي أنتج بواكير الحراك النسائي، الذي أصبح جاهزًا لأن يكون جزءًا من الحركة الوطنية بقيادة سعد زعلول، حيث شاركت المرأة وبشكل كبير في الاحتجاجات التي عمّت مصر، عقب نفيِه وأعضاء حزب الوفد لمطالبته باستقلال مصر.

شاركت المرأة من كل أطياف المجتمع في الاحتجاجات، من الطبقتَين البرجوازية والوسطى والعاملات في المهن الزراعية، وسقطت منهن شهيدات وجرحى. ولم يُخمد الحَراك النسوي بانتهاء الاحتجاجات وعودة سعد زغلول، بل أصبح أكثر تنظيمًا. وساهم في المطالبة بدعم تعليم المرأة والمزيد من الحريات، عقودٌ من المطالبات انتهت بدخول المرأة البرلمان في عام 1979، واستطاعت تحسين قوانين الأحوال الشخصية نسبيًّا، مع الأخذ بالاعتبار مقاومة التقليديين لأي تعديل. خبَتِ الحركاتُ النسوية بعدها، ولكنّ خَبْوَها لا يمكن فصله عن الحراك الوطني العام؛ إذ ازدهرت معه وخبَتْ معه.

في كل مرة طالَب فيها النساء والرجال بحقوق إضافية للمرأة، جرت مهاجمتهم بشدة بنفس الحجج، منذ أن بدأت الموجات التحررية الأولى في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إلى الآن؛ بحجة الخروج عن المألوف ومحاربة قيم المجتمع، وكأنَّ المألوف مقدس ولو ثبت خَطؤُه.

النِّسوية ليست حركة مستورَدة من الخارج، وليست تهمة تُرمى على كل امرأة تطالب بحقوقها. النسوية هي وعي الرجال والنساء بأهمية إنصاف المرأة، ورفع الظلم عنها بوصفها مدخلًا إلى العدالة الاجتماعية الشاملة.

الصراعات الوطنية والرغبة في الحرية والديمقراطية، دائمًا ما تُشعل معها نقاشات فكرية هامة، تتعلق بحقوق كل أفراد المجتمع. والمرأة ليست استثناءً من هذه الحقوق، وهذا ما تؤكده الكاتبة والباحثة “كوماري جايا واردينا”. ثم إنه لا يمكن فصل ما تتعرض له المرأة من ظلم واحتياجات، عن مطالب أطياف الشعب كله. واتّهامُ الحركات النسوية بأنها أجندة غربية، اتّهامٌ فاسد لا تدعمه الأدلة، بل وفيه تقزيم مرفوض للمرأة العربية التي تعلمت وتثقفت وأبدعت، وما زال في جعبتها الكثير. وهي مؤمنة بقضيتها العادلة ومستمرة في تحقيق مطالبها، شاء من شاء، وأبى من أبى.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive