الرجوع

النسوية والأسرة

الإثنين

م ٢٠٢٠/١١/٢٣ |

هـ ١٤٤٢/٠٤/٠٨

كثيرًا ما تُتهم النِّسوية في العالم العربي بأنها تسعى لتدمير الأسرة، وتمجيد الفردية، وتشجيع النساء على عدم الزواج. وفي الأمر جهل كبير، تُشارك فيه -يا للأسف- بعضٌ من مُدّعيَات النسوية، اللواتي لم يطَّلعن على مبادئ العمل النسوي واتجاهاته وسبب نضالاته. ويَظهر هذا في هجوم بعضهن على من تتحدث بالتضحية من أجل الأبناء، وكأنَّ النسوية تعني إهمال الأبناء أو عدم إنجابهم. وفي هذا الاعتقاد خطأ كبير.

إن النظريات الأخلاقية المبنية على صورة الفرد الذي يعيش لنفسه، تتجاهل واقعَ الإنسان والكائنات والطبيعة، أو اعتمادَ كل كائن في هذا الكوكب على الآخر بشكل مباشر أو غير مباشر. فكل فرد منا في حاجة إلى مساندة الآخر وعنايته، وهو مِن ثَمَّ يجب أن يقدم العناية لغيره. هذا ما تَلفت إليه “فرجينيا هيلد” في كتابها (أخلاق العناية)، الذي يؤكد أنه لا يوجد أحد لا يعتمد على غيره بشكل أو بآخر؛ إذ نحن معتمدون بعضُنا على بعض، وعلينا الاعتناء بعضنا ببعض.

لكن في نفس الوقت، فإن واحد من أسوأ ما تُعانيه الأسرة العربية اليوم، هو جعل الاعتناء بالأطفال واجبًا على الأم فقط، فتَقتل بذلك أواصر العلاقة وقوتها بالآباء، الذين تُوكَل إليهم مهمة تأمين احتياجات الأسرة. فالعناية بالأطفال والمحيطين، أمرٌ له تأثير كبير في الفرد وفيمن يعتمدون عليه. وعلى عكس ما نتوقع، فإن العلاقة بين المُعتنَى به والذي يقوم بالعناية، علاقة متبادلة، ترفد كلًّا منهما بروافد أخلاقية وفضائل. وهذا ما تؤكده فرجينيا هيلد في كتابها، والذي يتماشى مع أطروحات نِسوية مقدَّمة تحارب فكرة الفردية، وتؤْمن بالأسرة التي يقوم فيها كل من الأب والأم بالاهتمام بأفرادها، وعناية بعضهم ببعض.

في “أخلاق العناية”، تتحدث الكاتبة بالعلاقة بين العدالة والعناية، حيث ترتكز أخلاق العدالة على أسئلة تتعلق بالإنصاف والمساواة والحقوق الفردية والمبادئ المجردة، وبالتطبيق الذي يتناسب معها، في حين ترتكز أخلاق العناية على العناية والثقة والاستجابة للحاجات وتنمية العلاقات. تبحث أخلاق العدالة عن حل منصف بين مصالح وحقوق فردية متنافسة، في حين ترى أخلاق العناية أن مصالح من يَعتني بعضهم ببعض، مترابطة وليست متنافسة. العدالة تحمي المساواة والحرية، والعناية تقوِّي الترابط الاجتماعي والتعاون. نحن نحتاج إلى الاثنين معًا؛ إذ العدالة متناغمة مع العناية!

إن العناية بالآخر تُكسب مَن يقوم بها الفضائل الأخلاقية، ومنها مثلًا: نبذ الأنانية وروح التضامن وحب الآخرين وفهم الحياة ومغزاها. ولهذا، فإنَّ فكرة أن يكون الاعتناء بالأطفال مهمة الأم فقط، في حين يقتصر واجب الأب على جلب المال، فكرةٌ تَحرم الأبَ الفضائلَ الأخلاقية التي تجلبها العناية، كما تَحرم الأمَّ التجارب الحياتية الأخرى التي تعزز مكانتها في الحياة، وتَحرمها التطور الفكري والشعور بالأمان الناتجَين من ابتعادها عن مواجهة الحياة؛ ما يزيدها هشاشةً أمام أي طارئ محتمَل، ويجعلها أكثر عرضة للفقر والظلم.

النِّسوية ضدُّ النظرة الفردية، التي تؤسِّس لمجتمع مفكَّك يعيش أفراده بعزلة وأنانية، بكل ما تحمله الأنانية من نتائج سلبية في المجتمع، لكنها أيضًا ضدُّ نظرة المجتمع إلى الأسرة، التي تُحمِّل المرأةَ وحدها مسؤولية العناية، التي غالبًا ما تكون غير مدفوعة الأجر. النسوية ضد حرمان الأمِّ العملَ الذي يؤمِّن لها حياة كريمة، وضد غياب قوانين تدعمها في حال جرى الاستغناء عن خدماتها. في نفس الوقت، النسوية مع دعم خيارات المرأة في اختيار ما تريده، وعدم إجبارها على تكوين أسرة فرَض وجودَها ضغطُ المجتمع أو العائلة. فالمرأة فرد كامل، لا فردٌ ناقص يكتمل بالزواج. النسوية تدعم خيار المرأة في عدم الزواج، ثم تطالب بحقوقها إذا ما اختارت أن تكون زوجة أو أمًّا.

الأهم، أن النسوية ضد الأسرة التي تقوم على الاضطهاد. فهي ترفض دعوات حماية الأسرة بالسكوت عن اضطهاد المرأة، وكأنَّ قمع المرأة هو الطريق الوحيد إلى بناء أسرة. وتؤكد أن هذا الطريق لن يبني أسرة سليمة، ولن يخدم المجتمع. وتُقدم أطروحات بديلة مبنية على العلم والمنطق، وتؤكد أن العناية بالأسرة يجب أن تكون متماشيةً مع العدالة. وهذا دور القوانين، التي يجب أن تكون أكثر إنصافًا، إذا ما أردنا فعلًا الدفاع عن الأسرة العربية وثباتها.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive