الرجوع

الوثنية وعبادة الأنماط

الثلاثاء

م ٢٠١٨/٠٥/٠٨ |

هـ ١٤٣٩/٠٨/٢٣

 

تُعبِّر الوثنية عن اعتقاد نوع من التداخل بين عالم الطبيعة وعالم الآلهة، والذي مثَّل سمة عامة للفكر الديني القديم. وقد اعتقد الإنسانُ القديم وجودَ قوًى خفية وراء كل مظهر من مظاهر الطبيعة، وخاصة تلك التي عجز عقله عن فهم حركتها وأسبابها. ثم إنّ تسمية الآلهة قد ارتبطت بتلك القوة الخفية، ونظرًا إلى تعدد المظاهر الطبيعية واختلافها، فقد تعددت الآلهة واختلفت تبعًا لذلك.

الوَثَن وَفْق التعريف الديني، هو كل شيء يُعبد من أي مادة كان ولم يكن له صورة، في حين الصنمُ هو ما يُعبد وله صورة، سَواء لِكائنات بشرية كانت أو لحيوانية. وفي اللغة العربية، يتصل معنى "الوثنية" بالجمود على الشيء والثبات عليه، وهذا يعني أن مشكلة الوثنية تكمن في تلك النظرة الجامدة، التي تحصر الحقيقة الدينية في صيغة واحدة.

أطلق كثير من أتباع الأديان وصف الوثنية على غيرهم من أتباع الأديان الأخرى، كما هو الحال في موقف معظم علماء اليهودية من المسيحية، أو في ما ذهب إليه بعض الكُتَّاب المسلمين، مِمَّن صنفوا الديانة المسيحية على أنها امتداد للديانة الوثنية لدى الرومان، أو حتى في موقف "توما الأكويني" تجاه المسلمين في كتابه (Summa Contra Gentiles).

الوثنية كمنهج لا تقتصر على من يعبدون الأصنام والأوثان، وإنما نجدها متضمَّنة في كل شكل من أشكال تقديس العالم والكائنات المخلوقة. وأيضًا نجدها حاضرة في توقُّف الفكر الديني على "أنماط" من التصورات العَقَدِيَّة، التي تُعطِّل سعي العقل للبحث عن معانٍ وأفكار جديدة. فتقديس الأجداد وعبادة الأسلاف هو شكل من أشكال الوثنية، التي نجدها لدى كثير من أتباع الأديان والمعتقدات في القديم والحديث. كذلك تقديس اللغة وعبادة حروفها هو شكل آخر، أكثرُ خفاءً وتعقيدًا من تلك الوثنية الأُولى. فالخروج باللغة من كونها إبداعًا إنسانيًّا، إلى لغة مقدسة سبقَت الخلق والتكوين، لا يَخرج في مضمونه عن معنى تقديس الكائنات والمخلوقات.

إن السلطة القهرية التي تلجأ إلى توحيد العقائد في عقيدة واحدة، وترفض كل أشكال التنوع والاختلاف، هي أكثر ضلالًا من الوثنية الساذجة التي آمنت بما وَسِعَها من التصورات والمعتقدات. ثم إنّ وثنيةَ الهنود الحُمْر وتقديسَهم الوديان والجبال والأنهار، أكثرُ قربًا للفضيلة، من معتقدات الرجل الأبيض الذي رفع ألواحه الحجرية بيمينه، ليسرق أرض الهنود الحمر بيساره.

وفي السياق الإسلامي، نجد أن الحجَّ هو الشكل الأكثر قربًا لعبادات العرب قبل الإسلام. وقد استشعر بعض الصحابة هذا الالتباس، ‏كما هو حال عمر بن الخطاب عندما قال عن الحجر الأسود: "واللهِ، إني أعْلَم أنك حَجَر لا تَضُرُّ ولا تَنفع، ولولا أني رأيتُ رسولَ الله يُقبِّلك ما قبَّلْتك" (البخاري). فتقديس الحجارة هو شكل من أشكال العبادات الوثنية القديمة، ولعل الحكمة من وجود "الحجر الاسود" ضمن شعائر الحج في الإسلام، هي محاولة استحضارِ المسلم لمسيرة الإنسان في سعيه نحو الإيمان، وفي ارتقائه من الوثنية وتقديس الحجارة، إلى التوحيد الخالص.

الوثنية هي مرحلة تعبِّر عن طفولة العقل الإنساني، وسعيه الدؤوب للإيمان، وقد نتجت من غياب المعرفة السببية للطبيعة، وانعكاسِ صورة الإنسان على تصوراته الدينية، حسب ما يقول الفيلسوف اليوناني أكسينوفان: "لو كان للماشية والخيل والسباع أيْدٍ تتمكن من الرسوم والنحت، لرسمَت الخيلُ آلهتَها على صورة خيل، ولنحتت تماثيلها على صورتها، ولرسمت الماشية ونحتت آلهتها على صورتها وهيئتها، تمامًا كما يُصور الإنسان وينحت آلهته على صورته وقدر إدراكه. كل صنف يتصور ويرى آلهته على صورته".

إن النظرة الاستعلائية تجاه المفاهيم الدينية البدائية للشعوب القديمة، تمثِّل عائقًا أخلاقيًّا واختلالًا معرفيًّا، يحُول دون فهم التجربة الدينية لمرحلة أساسية من مراحل تراثنا الإنساني. وأيضًا الزعمُ بأن أتباع دين بعينه، هم قادرون دون غيرهم على إدراك الحقائق المفارقة لعالم الآلهة، هو زعم يستبطن القول بحلول المطلق بالنسبي، ويتنافى مع تجريد التوحيد.

ربما يكون التفكير التجريدي الذي ينتقل من الشكل إلى الصورة، ومن تقديس الطبيعة إلى البحث عن معاني القداسة وراءها، هو شكل متقدم من أشكال الفكر الديني، وربما تكون كل صورة يَصُوغها الإنسان أو يَعقلها عن الله والحقيقة، ليست سوى وثنٍ آخَر، لا يَستحقُّ أن يُعبد من دون الله.

 

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive