الرجوع

الوَلاء والتَّبعيَّة: الثُّنائيَّة المَغلوطة

الإثنين

م ٢٠١٩/١٢/١٦ |

هـ ١٤٤١/٠٤/١٩

الولاء في اللُّغة العربيَّة، يعني المَحبَّة والنُّصرة والاتِّباع والقُرب والدُّنوَّ من الشَّيء. أمَّا التَّبعيَّة، فبحسب اللُّغة هي مَصدر صناعيّ مِن الفعل "تَبِع"، أيْ لَحِق الشَّيْءَ أو تلاه، وهي تعني ملازمة التَّابع لمتبوعه. ومن هذا المَدخل اللُّغويِّ، أردتُ التَّطرُّق إلى موضوع الفرق بين الولاء -في بُعده الإيجابيِّ الَّذي يوحي بالوفاء والعِرفان-، والتَّبعيَّة الَّتي تنفي عن المَتبوع شخصيَّته وإرادته، وتجعله مجرَّد كائن يقتفي أثَرَ آخَر يتقدَّمه، وحيثما يذهبْ يَلحق به دون تفكير أو إرادة.

التَّبعيَّة وصفٌ يقال في الأفراد والدُّول أيضًا، مِثل: فلانٌ تابِعٌ لفلان، وتبعيَّة نظام دولةٍ ما لِنِظام دولةٍ أخرى. أيضًا التَّبعيَّة المطلَقة صفة غير محمودة. فهي تَنزع من الفرد التَّابع -كما من الدَّولة التَّابعة- عناصرَ الأخذِ بزمام الأمور، واستقلاليَّةِ القرار، وتَحمُّل المسؤوليَّة، والتَّحلِّي بسُلطة الفكر وأخذ القرار. وعلى عكس تبعيَّة المؤمن لشريعة ربِّه، والَّتي تعني الاحتسابَ والرِّضا بالقضاء والقَدر، نجد أنَّ تبعيَّة الفرد لغيره، أو تبعيَّة النِّظام السِّياسيِّ لنظام آخر، تعني التَّقليد والارتباط، وتُلغي إعمال العقل، وتُسطّح مَلَكة الإدراك.

يقول الفيلسوف الألمانيُّ "إيمانويل كانط" عن التَّنوير، بأنَّه خروجُ الإنسان من مرحلة القصور العقليِّ، وبلوغُه سنَّ الرُّشد العقليِّ. فيتحوَّل من إنسان يَتْبع النَّاس ويقتدي بكلامهم و يردِّده، إلى مرحلة التَّحلِّي بمَلَكة الاستقلال الفكريِّ. فيَربط "كانط" حدود العقل بحدود الإيمان، ويرى أنَّ الإيمان يحدِّد العقل، بل -وأبعَدُ من ذلك- يرى أنَّ الإيمان بدون عقل لا يَعُود إيمانًا. ولعلَّ هذا قريب من قول رسول الله محمد (ص): "المؤمن القويُّ خيرٌ وأحَبُّ إلى الله من المؤمن الضَّعيف".

مفتاح التَّنوير عند "كانط" هو التَّخلُّص من الجبن والتَّبعيَّة، والتَّحلِّي بالشَّجاعة الفكريَّة. وحِينَها يصبح الإنسان مالكَ فكرِه، ومسؤولًا عن نفسه. وقَول "كانط": "أَعْمِلُوا عقولَكم أيُّها البشر"، وهو الشِّعار الَّذي اتَّخذه لشحذ الهِمم والتحريض على إعمال العقل، ساهَم بشكلٍ كبير في خلق نهضة فكريَّة في أوروبَّا. والسَّبب لا يَكمن في قوَّة المجموعة البُنْيويَّة، بل في اعتناق الفرد -عن قناعة- لنصيحة: "أَعْمِلْ عقلَك". فحين تتجسَّد همّة الفرد، ويجد نفسه ضمن مجموعة تتحلَّى بهِمَّة مماثلة تَحفِز على إعمال العقل والإنتاج؛ يُولَد ما يسمَّى: "الوَلاء". وهو وَلاءُ الفرد للفكر الَّذي يعتقد أنه غيَّرَه نحو الأفضل، ووَلاؤه لبلده الَّذي مكَّنَه من اعتناقِ ما يشاء، وصقْلِ شخصيَّته والتَّخلُّصِ من عصور الظَّلام.

أمَّا التَّبعيَّة، فهي البقاء في مرحلة القصور العقليّ، والتَّشبُّث بجِلباب المتبوع، أينما حَلَّ يُهَرول خلْفَه تابِعُه. فتُطمَس هُوِيَّةُ التّابع ويُسطَّح فكره، بل يتلاشى ويغدو رهين تَحرُّكات مَتبوعِهِ، الَّذي يفكِّر عنه ويتصرَّف عنه. أيضًا التَّبعيَّة هي القُصور وعدم رشد الإنسان، وهي قرينة القصور الفكريِّ، والجبن والخوف من أخذ زمام الأمور.

في الحديث في التَّبعيَّة يَحضر ذِكر القيادة، وكأنَّهما واحد، لكنَّ الحقيقة مغايرة لهذا الاعتقاد. فالقيادة الحقَّة لا تُسطِّح دور الفرد، بل تَشحذ همَّته وتُشْركه في أخذ القرار. والقائد قويٌّ بمن معه، لا بمن يَدُوسهم. وفي القيادة حوار بين القائد ومجموعته، ونقْدٌ ذاتيٌّ وتَواضُع أيضًا. لكنَّ أخْذَ القرار هو بِيَد القائد، الَّذي يتحمَّل مسؤوليَّته في حال النَّجاح أو الإخفاق. أمَّا التَّبعيَّة، فهي طمسٌ لمن يسيرون في فَيْلق القائد. فَهُم أتباعه، ودَورهم يقتصر على التَّنفيذ والصَّمت. والصَّمت قد يكُون حتَّى في حال ملاحَظة الخطأ؛ إذ الهيبة من القائد المتبوع، تَجعل التَّابعين وَجِلِين من إبداء الرَّأي والملحوظة.

هنا، نَخلص إلى مفهوم الولاء. فهل هو تبعيَّة أم اعتراف بالجميل ووفاء، من أجل مواصلة العطاء وبلوغ الأهداف والإيثار؟ الولاء يعني الوفاء، ولا يعني التَّبعيَّة. الولاء ألَّا تَطعن ظهر مَن أحسن إليك ورعاك، أو شاركَكَ في أخذ القرار، أو أسَرَّ إليك بِسرِّه، إلّا أنّه لا يعني التَّبعيَّة ولا الانبطاح ولا اضمحلال الفرد أمام مَن والاه.

لطالما لاحظْتُ هذا الخلط بين الولاءِ كقيمة أخلاقيَّة تعني الوفاء والنِّدِّيَّة أيضًا، ومفهومٍ ثانٍ مختلفٍ تمامًا هو التَّبعيَّة، واضمحلال قيمة الفرد الَّذي يتحوَّل إلى مُهَروِل يَهزُّ رأسه دومًا بالإيجاب، دون إعمال عقلٍ أو بذل جهد في التفكير والتمحيص، وبَلْورة رأيٍ خاصٍّ به فيما جرى عرضُه عليه من مسائل.

التَّداخل بين الولاء والتَّبعيَّة والخيانة واستقلاليَّة المصير والقرار، نجده أيضًا في علاقات بعض الأنظمة بِبَعض، حيث تضمحلُّ سيادة كيان له سُلطة القرار، لمصلحة كيان آخر (دولة أو نظام). هنا تتجسَّد التَّبعيَّة، وغالبًا ما تنتهي ولو بعد عقود، بتصادم بين قُوًى في داخل البلد، إحداها تابعة والثَّانية ضاقت ذرعًا بالتَّبعيّة. وها هنا يبدأ عصر التَّنوير، الَّذي تَسبقه لا مَحالة صدامات لا مَفرَّ منها.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive