الرجوع

اِحترِموا كرامة الإنسان

الثلاثاء

م ٢٠١٨/٠٢/١٣ |

هـ ١٤٣٩/٠٥/٢٨

 

لا تنفكُّ كرامة الإنسان عن إنسانيته، فهي كرامة ذاتية "أصلية" غير مقصورة على أتباع دين، أو عرق، أو لون بعينه. وقد سعت كثير من الأديان إلى إعطاء هذه الكرامة أبعادًا عَقَدِيَّة تتصل بخصوصية العطاء الإلهي، الذي جاء هبةً من الله للإنسان دون قيد أو شرط. ومن النصوص التأسيسية التي جاءت لتؤكد هذا المعنى، قوله تعالى: {ولَقَد كرَّمنَا بَنِي آدَمَ وَحمَلنَاهُم في البَرِّ والبَحرِ ورزَقنَاهُم منَ الطيِّباتِ وفضَّلنَاهُم عَلَى كَثِيرٍ ممَّن خَلَقنَا تَفضِيلًا} [الإسراء: 70]، وقد عبّر عنه الإمام الألوسي أجمل تعبير في تفسيره عندما قال: "جعلناهم قاطبةً بَرَّهُم وفاجِرَهُم ذوي كرمٍ، أي شرفٍ ومحاسن جمّة لا يحيط بها نطاق الحصر". ولكن، يمكننا أن نلحظ في هذه الآية ثلاثة مظاهر لتكريم الله للإنسان، وهي: تسخير الْبَرِّ والبحر، والرزق من الطيبات، والتفضيل على كثير من خلق الله. وهذه المظاهر الثلاثة "الخارجية" للتكريم، يقابلها مظاهر ثلاثة "داخلية" تتمثل بنفخة الروح الإلهية، والعقل القادر على تحصيل المعرفة، وحرية الإرادة والاختيار.

ينسجم ما جاء في الكتاب المقدس مع تكريم الله للإنسان، فقد جاء في سِفْر التكوين أن الله خلق الإنسان على صورته، وفي المزامير: "جعَلتَهُ أدنَى قلِيلًا مِنَ الملائِكةِ إِلَى حِينٍ، ثمَّ كلَّلتهُ بالمَجدِ والكرامَةِ، وأعطَيتَهُ السُّلطَةَ عَلَى كلِّ مَا صنعَتهُ يَداكَ. أَخضَعتَ كُلَّ شيءٍ تَحتَ قدميهِ. الغنم والبقرَ وجَمِيعَ المَوَاشِي، ووُحُوشَ البَريَّةِ أَيضًا" (مزمور 8: 5-7).

وفي مقابل هذه الكرامة "الأصلية" التكوينية التي يشترك فيها الناس جميعًا، هناك نوع آخر من الكرامة العملية السلوكية التي تقبل التفاضل والتسابق بين الناس، وهي المتضمَّنة في ما جاء في الإنجيل: "فَإِن طَهَّر أحَدٌ نفسَهُ مِن هذِهِ، يكُونُ إِناءً لِلكَرامَةِ، مُقدَّسًا، نافِعًا لِلسيِّدِ، مُستعدًّا لكُلِّ عمَل صَالحٍ" (2 تيموثاوس 2: 21). وقريب من هذا المضمون الروحي العملي الذي يتحصَّل للإنسان بالطهارة والتزكية، يتكلّم القرآن عن الإكرام الإلهي الذي يتحصل للإنسان بالتقوى: {يا أيُّها النَّاسُ إِنَّا خَلَقنَاكُم مِن ذكَرٍ وَأُنثَى وجَعَلنَاكُم شعُوبًا وقبائِلَ لِتعَارَفُوا إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أَتقَاكُم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خبيرٌ} [الحُجُرات: 13]. فالآية تتكلّم عن تكريمٍ تنافسيٍّ يقوم على غايتين اثنتين، هما "التعارف" و"التقوى"، وعلى قدر ما يجتهد الإنسان في تحصيل هاتين الغايتين، فإنه ينال التكريم الإلهي. وتتضح علاقة الكرامة "الأصلية" بالكرامة التنافسية "الكسبيَّة"، من خلال كون هذه الثانية، بمنزلة تَجْلِيَةٍ لمعاني الكرامة "الأصلية"، وتجسيدٍ لها في الواقع الاجتماعي.

تقوم حقوق الإنسان على تجسيد الكرامة الإنسانية، وقد تَمثَّل ذلك بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948، في المادة الأولى منه: "يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وُهِبوا العقل والضمير وعليهم أن يعامل بعضهم بعضًا بروح الإخاء".

لقد أدرك العقل الإنساني أن التمييز بين الناس على أساس اختلاف العرق أو اللون أو المعتقد، هو بمنزلة إهانةٍ وانتقاص لتلك "الكرامة الأصلية"، وهذا يعني أن احتقار النازيَّة لكرامة الإنسان اليهودي مثلًا، لا يقلُّ سُوءًا عن احتقار الصِّهيونية لكرامة الإنسان العربي، مسلمًا كان أم مسيحيًّا.

الكرامة ليست مقصورة على الأفراد دون الجماعات، أو على فئات مخصوصة من الشعوب دون أخرى. فكرامة الإنسان المكسيكي ليست دون كرامة الإنسان الأميركي، وحق الشعب الفلسطيني في وطنه لا يقلُّ عن حق أي شعب آخر في الشرق أو الغرب.

هناك فجوة واضحة بين الكرامة التي يحظى بها الإنسان "كمواطن" في إطار الكثير من دول المدنية الحديثة، وكرامةِ الإنسان الذي لم تشأ له الأقدار أن يكون مواطنًا في تلك الدول، كما هو حال كثير من اللاجئين الباحثين عن كرامة الحياة ولقمة العيش، في دول شمال البحر المتوسط.

لقد مثَّلَت "كرامة الإنسان" أحد أهم تعاليم الفكر التنويري، الذي نجح في نقل الغرب من قرونه المظلمة إلى مدنيته الحديثة. وعلى الشعوب التي تتشوَّق إلى نيل حقوقها، أن تدرك أنَّ احترام الكرامة يمثل انتصارًا للفضيلة والأخوَّة الإنسانية، وأن المساس بكرامة بعض الناس هو مساس بأصل كرامتهم جميعًا.

 

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive