الرجوع

بين الإيمان والإلحاد

الخميس

م ٢٠١٧/٠٧/٢٧ |

هـ ١٤٣٨/١١/٠٤

من الأمثلة التي تدل على أثر الإشكالات اللغوية في المفاهيم الاعتقادية، ما نجده في إطلاق تسمية "الملحد" على من لا يعتقد بوجود خالق للعالم، فقد الْتَبست هذه التسمية بجملة من المعاني والدلالات التي حالت دون تقديم فهم قويم لحالة "عدم الاعتقاد". فالمعاني اللغوية لكلمة (ألحد) في اللغة العربية كانت تطلق على من يُعرض، أو يُشرك، أو يُكذّب بعض المعاني المتعلقة بالإيمان بالخالق، وهذا المعنى الأخير هو الذي استعمله القرآن بقوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180].

ومن المصطلحات التي تتصل بمعنى الإلحاد وأسهمت في زيادة العِداء له تسمية "الزنادقة"، وهي تسمية فارسية تطلق على من يقول ببقاء الدهر، وقد التبست هذه التسمية بمعنى الضلال والخبث، وأُطلقت على من يظهر الإيمان ويخفي في نفسه الكفر.

ولعل أقرب تسمية من المعنى المعاصر لما نسميه اليوم الإلحاد، هي تسمية "الدهريون"، والتي كان أتباعها يتمثلون بالمقولة القديمة "إنْ هي إلَّا أرحام تَدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلَّا الدهر". وقد أشار القرآن إلى هذا الاتجاه بقوله: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24].

وقد أسهم غياب التصور الواضح لدى بعض المتدينين تجاه غير المؤمنين، في زيادة الهوَّة والعِداء بين الطرفين على مر العصور، كما أسهم الاعتقاد بأن الإيمان هو الحالة الأصلية للإنسان، وأن الإلحاد هو خروج عن الفطرة والطبيعة البشرية، في جعل كثير من المؤمنين غير مدركين لواقع الحالة التي يعتقدها مَن نطلق عليهم تسمية "الملحدين".

إن جزءًا كبيرًا من مسؤولية عدم الإيمان يعود إلى المؤمنين أنفسهم. فعندما تتحول أفكار المؤمنين إلى معتقدات قهرية ومطلقة، لا تقبل النقاش ولا تحتمل الاختلاف، فإنهم يدفعون غيرهم إلى الشك والابتعاد عن تلك المعتقدات، كما حدث مع الديانة الجينية التي تُعدُّ حالة فريدة تجمع بين الدين والإلحاد، وكانت قد ظهرت في الهند قرابة القرن السادس قبل الميلاد، وقد أطلق على هذه المرحلة "عصر الإلحاد". ومن أهم معتقدات هذه الديانة رفض الاعتقاد بوجود الآلهة، والقول بأن هذا الاعتقاد يُلحق بالعقل الخرافة والوهم. والواقع أن حدّة الوضع الطبقي الظالم، وانتشار الأساطير، والحكايات الخارقة للرهبان، وتنامي المعتقدات الخرافية المتعلقة بالآلهة الهندوسية، كل ذلك قد أسهم في نشأة هذه الديانة وظهورها!!

من غير اليسير إقناع كثير من المؤمنين بأن حالة "عدم الاعتقاد" ليست نقيضًا للإيمان، بقدر ما هي مرحلة تتعمق فيها الأسئلة، وتتّقد فيها الأذهان، بحثًا عن إجابة مقنعة تتجاوز الثقافة السائدة وما توارثه الآباء والأجداد.

يمكن للمؤمن أن يفهم الإلحاد بأنه حالة من التوقف وعدم الحسم في مسألة وجود الله، وأنه يمكن أن يعود إلى عدم توثُّقٍ أو إحساسٍ بمعاني الإيمان، التي يعتبرها كثير من المؤمنين بديهيات لا تحتاج إلى بحث أو استدلال.

غالبًا ما يكون التوقف وعدم الانسياق وراء المعتقدات السائدة، يعبِّر عن حالة متقدمة من المراجعة والتفكير النقدي، كما حدث مع إبراهيم عليه السلام في قصة بحثه عن الله، ونقده للمعتقدات السائدة في مجتمعه.

لا علاقة حتمية بين مستوى الإنسان العلمي والمعرفي، وإيمانه بوجود الخالق. فقد نجد مِن علماء الفيزياء مثلًا مَن هو مؤمن، ومنهم من هو غير مؤمن، كما يمكن لنا أن نجد بين البسطاء من الناس مَن يؤمن، ومَن لا يؤمن.

ومما نراه في تاريخ المعتقدات، أن الإنسان يمكن له -وفي أي لحظة- أن يغير موقفه تجاه مسألة الإيمان بالله، سواء كان من الإيمان إلى الإلحاد، أو من الإلحاد إلى الإيمان، وهذا ما يجعلنا أكثر تواضعًا، وأقل تسرعًا في إلقاء الأحكام والأوصاف على من يخالفنا في الاعتقاد والإيمان.

دائمًا وكما هو الحال في الكائنات كلها، يتضمن الشيء شيئًا من نقيضه. فالإيمان يبقى مشوبًا بشيء من الشك، والإلحاد كثيرًا ما يكون حالة جنينيَّة من الإيمان تبحث عن ميلاد جديد. وإذا أدركنا هذه المعاني والدلالات التي تعتري حالة الإلحاد وعلاقته بالإيمان، فإنه يمكننا كمؤمنين وغير مؤمنين أن نعيش معًا باحترام وسلام.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive