الرجوع

ترسيخ المواطنة في ذكرى إبادة الأيزيديين

الإثنين

م ٢٠٢٠/٠٧/٢٧ |

هـ ١٤٤١/١٢/٠٧

باتت الأرقام الباردة تعكس حجم المأساة، التي مرت بها الأقلية الأيزيدية بعد ست سنوات من الإبادة الجماعية، التي ارتكبها تنظيم داعش صيف عام 2014، إذ بلغ عدد ضحايا الأيام الأولى من غزو داعش 1293 أيزيديًّا، واختُطف 6417 (منهم 3548 من الإناث و2869 من الذكور)، واكتشفت 83 مقبرة جماعية، ووصل عدد المزارات الدينية المدمرة إلى 68 مزارًا، وبلغ عدد النازحين نحو 360,000 نازح. تبدو خطورة هذه الأرقام قياسًا على الوزن الديموغرافي للأيزيديين، والذي يصل إلى نصف مليون نسمة فحسب. والأخطر أن الإبادة وما تبعها من نزوح، دفعت عددًا يقدر بنحو (100.000)، إلى الهجرة ومغادرة البلاد نهائيًّا دون رغبة في العودة. وهو الأمر الذي يهدد بتضاؤل هذا الوزن الديموغرافي الهش.

من المهم -ونحن على أعتاب الاحتفال بالذكرى السادسة للإبادة-، أن نتوقف عن النظر إلى الأيزيديين بوصفهم ضحايا سلبيين/ات فحسب، وأن نستعيد اكتشاف إنسانيتهم المفقودة، ورؤية الجانب الحيوي من هويتهم الخلَّاقة، أي الاحتفاء بالمعجزة الأيزيدية واستمرارها، مع وجود 74 مذبحة وإبادة جماعية، تعرض لها الأيزيديون/ات خلال القرون السابقة.

لقد أثبت المجتمع الأيزيدي حيويته عن طريق تبدلات بُنيته الاجتماعية الدينية، مثل: قرار المؤسسة الدينية استقبال الناجيات على نحو يخالف تقاليد مجتمعات الشرق الأوسط المحافِظة، وقصص الحب والبطولة التي أثبتها شبان أيزيديون تَقدموا للزواج بالناجيات، وفوز الناجية “نادية مراد” بجائزة نوبل للسلام بعد تحولها إلى متحدثة بالقضية الأيزيدية على نحو فاق المؤسسات التقليدية وتجاوَزها بأشواط. لذا، يمكن للذكرى أن تمثل الوجه الآخر الأكثر إيجابية وإشراقًا من التقاليد والعادات والثقافة الأيزيدية، التي تعود جذورها لحضارات العراق القديمة، ولا تقدم صورة سلبية عن المجتمع الأيزيدي بوصفه ضحية فحسب.

من وجهة نظري، فإن تذكُّر الإبادة الجماعية على نحو يسهم في ترسيخ مواطنة حاضنة للتنوع، يتطلب تحرير الحدث من كونه مناسبة حزن عميق، وإعادة إنتاجه بوصفه محفزًا إلى نقاش مجتمعي واسع ودائم، بشأن التعلم من دروس الماضي. ولما كانت الثقافة المحلية مترسخة في الحزن وعبادة الألم، منذ النواح على تموز/يوليو في ماضي الحضارة السومرية -حتى البكاء على الإمام الحسين في العراق المعاصر-؛ فإن التذكر الشعبوي من خلال طغيان الجانب الطقوسي من الحزن، سيتنافى مع نموذج تذكُّر خلَّاق يبعث الماضي بوصفه عبرة للأجيال الجديدة، وقد يحيله إلى محض عَود أبدي، يفرغ الماضي من قدرته التحريرية، ويكبل الحاضر بعقد مضفورة بالرغبة في الانتقام والغضب، أو يتحول إلى مجرد مرسوم شكلي، يتضمن عبارات مواساة صادرة من النخب الثقافية والسياسية.

إنْ كان في إمكان التذكر أن يطلق لحظة إصلاح فضاء اجتماعي، يتسم بضعف ثقافة الاعتراف والاعتذار، فهذا الأخير تصوِّره الثقافة السائدة بوصفه عامل ضعف في الشخصية، ونقصًا في الرجولة. وفي ظل سيادة الإنكار، تصبح المصالحة في إطار من العدالة الانتقالية مستحيلة. وفي مقابل ذلك، فإن التجربة المحلية في الصفح والغفران فقيرة، على نحو يدعو إلى الرثاء، ولم تتحقق على الإطلاق في تاريخ العراق المعاصر. وعادة، يسود إنكارٌ منهجي للجرائم من قبل الجناة، في مقابل الافتقار إلى ثقافة الـصفح والغفران من قبل مجتمع الضحايا؛ ما أغرق المجتمع في دوائر جهنمية من الانتقام.

لذا، يبقى إنجاز العدالة ناقصًا إذا لم يتوافر اعتراف الجناة، حتى ولو جرى تخليد قصص الضحايا. وأبرز مثال على ذلك: مشروع مؤسسة الذاكرة العراقية، والذي يحفظ سجلًّا تاريخيًّا شفهيًّا، تضمَّن الآلاف من تسجيلات شهادات ضحايا نظام البعث، أشرف عليه مصطفى الكاظمي (رئيس الوزراء الحالي)، لكنه افتقر إلى تسجيل ساعة واحدة تتضمن اعترافات الجناة. ومن نتائج ذلك، انتشار نوستالجيا (الحنين إلى الماضي) في “السوشل ميديا” عن سنوات البعث، بوصفها جنة مفقودة.

أخيرًا، ولما كانت الحكومة العراقية الراهنة، يقف على رأسها خبير بالتعامل مع جروح الذاكرة الجماعية، فإن عليها أن تدرك القيم المحتملة لعملية تخليد هذه الذكرى في سياق جديد؛ إذ بالتفكير المؤسسي، وبالشراكة مع الجيل الجديد من الشباب الأيزيدي من كافة مكونات المجتمع، يمكن أن يؤدي تخليدُ الذكرى إلى خلق فضاءات مدنية لمناقشة الماضي، وتطوير رموز قوية تجعل من الذكرى عامل وحدة وإجماع وتعزز احترام الذات العراقية وكرامتها، والمساعدة على شفاء الجروح واحتواء العداوات التي تهدد المستقبل. ومن ثم، يمكن أن توفر فرصة واعدة، لخلق مواطنة حاضنة للتنوع الثقافي.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive