الرجوع

جسد المرأة بين “باربي” و”إل. أُو. إل. سربرايز”

الثلاثاء

م ٢٠٢٠/٠٩/١٥ |

هـ ١٤٤٢/٠١/٢٨

على مدار أكثر من خمسة عقود من الزمن، وتحديدًا منذ آذار/مارس 1959، جرى تدريجيًّا ضبط اللاوعي الجمعي لدى كثير من النساء، على مقاييس الجسد المثالي المتمثل بشكل جسد الدُّمْية “باربي”، التي ابتكرتها سيدة الأعمال الأميركية “روث هاندلر”، ذلك الشكل الرشيق والمتناسق بمواصفات كمالية لا تمتُّ إلى الواقع بصلة! فكل شيء في عالم الجمال والمُوضة العالمية والإعلانات التجارية، حتى طرق التمارين الرياضية التي كانت تؤديها “جين فوندا” وغيرها، سُخِّرت كلها لخدمة هذا الشكل وتسويقه، بوصفه معيارًا لمدى قرب جسد المرأة أو بُعده من المقاييس الجسدية المثالية.

بطبيعة الحال، انعكست هذه المقاييس الجمالية على أجساد أغلب نجمات السينما العالمية، اللواتي تسعى كثيرات -ومنهن المراهقات تحديدًا- لتقليدهن في كل شيء. وبمقدار نجاح هذا السعي المرهق نفسيًا وجسديًا وماديًا، يزداد شعور المرأة بالرضى عن نفسها!

الآن بنفس الهوس، بدأ السوق العالمي منذ حوالي أربع سنوات، بالتسويق لدمية جديدة اسمها “إل. أُو. إل. سربرايز” (L.O.L Surprise)، بمقاييس جسدية جمالية مختلفة كليًّا عن مقاييس جسد الدمية “باربي”، صاحبة الأفخاذ الرفيعة والمؤخرة الصغيرة! فالدمية الجديدة تملك أفخاذًا غليظة ومؤخرة كبيرة وخصرًا شديد الضيق.

هذا الشكل الذي يجري زرعه الآن في وعي البنات الصغار، هو ما سيحدد لهن مستقبلًا علاقةً قد تكون شائكة جدًّا بأجسادهن! ومثلما سُخِّر كل شيء لخدمة تسويق جسد الدمية باربي، جرى تسخير الكثير من الأمور الآن لتسويق جسد الدمية “إل. أُو. إل. سربرايز”، إذ بدأ ذلك من التمارين الرياضية التي تضمن للمرأة مؤخرة كبيرة وخصرًا نحيفًا، مرورًا بموضة ملابس تبرز هذا النوع من الأجساد، ووُصولًا إلى عمليات النحت التجميلية لمن يملكن المال، ولا يملكن الوقت لتمارين قد تأخذ سنوات، قبل أن تحصل إحداهن على هذا الجسد المثالي.

ابنتي ذات العشر سنوات، التي تملك عددًا لا بأس به من دُمَى “إل. أُو. إل. سربرايز”، سألتني قبل أيام لماذا خصرها ليس نحيفًا. قلت لها: خصرك نحيف أصلًا، أنت بكُلِّك نحيفة! لم أنتبه لمغزى سؤالها إلا بعد ساعة تقريبًا! ناديتها ووضعت دمية باربي إلى جانب دمية “إل. أو. إل.”، وسألتها أيُّما الجسدَين أجمل بِظنِّك. بدون تردد قالت: جسد الدمية “إل. أو. إل.” بالطبع! حديث طويل بدأته معها، حول واقعية التسويق العالمي للجسد المثالي، وتنميط الذوق العام، وكيف سيؤثر هذا مستقبلا في علاقتها بجسدها وبصحتها وربما بالحياة ككل! وفكرة أن كل ما يحتاج إليه الإنسان بشكل عام، هو أن يأكل بشكل صحي ويتمرن بغرض المحافظة على صحته ولياقته، وليس ليصبح نسخة من دمية، أوصلَت هوس بعض الفتيات إلى الخضوع لعمليات تجميلية، ليصبحن نسخة منها!

مثلما تقع المرأة في فخ التنميط، يقع الرجل كذلك. وليس الحديث هنا بما يُبذل عالميًّا لإخضاع ذوق الرجل لمقاييس جمالية بعينها، لأنه بالتأكيد ليس بالسخاء الذي يبذل لتنميط ذوق النساء؛ إنما المقصود هو أن المقاييس الجمالية للجسد المثالي الذي يجري تسويقه عالميًّا للمرأة، يُسوَّق بالمثل للرجل، بحيث تصبح تلك المقاييس هي التي تحدد له جمال جسد المرأة من عدمه. وهذا -وإن كان يجب ألَّا يشكل أي أهمية لدى المرأة-، فإنه يا للأسف يشكل عبئًا إضافيًّا وضغطًا نفسيًّا مضاعفًا عليها، لا سيّما على المرأة التي تنشأ في مجتمعات ذكورية تتوقع منها إرضاء الرجل، وتطالبها بأداء مبهر وكامل على كل المستويات المادية والجسدية والنفسية!

أنا لا أستطيع التحدث باسم كل النساء بطبيعة الحال، لكن بوصفي واحدة تنتمي إلى جيل “باربي” المثالي، وتعرف كثيرات من نفس جيلها، وقعن ضحية ذلك التنميط الذي استنزفنا نفسيًّا وربما ماديًّا، قبل أن نعي الشَّرَك الذي نصب لنا ووقعنا فيه، ونتجاوز بصعوبة آثاره النفسية السيئة؛ علينا أن نعمل على توعية هذا الجيل بالمخاطر النفسية والمادية لهذا التنميط، وتعزيز الإحساس لديهن بقيمتهن، كإنسان عليه أن يجد طريقة ليتقبل عيوبه مثل محاسنه، لأن هذا القبول يشكل الأساس، الذي يجعلنا نثمن بشكل عام قيمة الاختلاف في هذه الحياة، وندرك أنه مصدر التنوع والجمال.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

إخترنا لكم

Alternate Text
جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive