الرجوع

جيولوجيا العرب الثقافية

الثلاثاء

م ٢٠١٧/٠٤/٢٥ |

هـ ١٤٣٨/٠٧/٢٩

الجيولوجيا الثقافية والاجتماعية والنفسية في منطقتنا، تُحتم قدرًا أكبر من البحث، ومعيارًا مختلفًا من التنقيب. براكين متفجرة، وزلازل مدمرة، وفيضانات مضعضعة، ربما تعكس إدارة عربية ثقافية هادرة للتنوع، واستنارة اجتماعية عكسية صارخة للتعدد، حيث وجودك كآخَر يهددني، وشكلك المختلف يؤرقني، وطقسك المغاير في الصلاة يرهبني، ومفرداتك المختلفة في إلقاء التحية تصدمني، بل وانتماؤك إلى ما أنتمي إليه، ولكن "بتصرف"يزعجني؛ وهو ما يدعوني مرة إلى رفضك، وأخرى إلى منعك، وثالثة إلى إقصائك، وإن لزم الأمر إلى قتلك، أو تفخيخك، أو تفجيرك (أو أيُّهم أيسر).

السبيل الأيسر إلى المعرفة، هو السؤال. ومثلما فعَلَت "أبلة عفَّت" (الفنانة سهير البابلي)، في مسرحية "مدرسة المشاغبين"، حين سألت الطلاب "تعرف إيه عن المنطق؟"، سألتُ عيِّنة عشوائية "تعرف إيه عن التعددية؟"؛ تعددت الإجابات، لكن المفردات اتسقت، والمفاهيم تقاربت، والدلالات تطابقت، وظلت معاني التعدد وصورهُ الذهنية في بطن المنطقة العربية. ومن بين الذكور البالغين الخمسة الموجه إليهم السؤال، قال أربعة بعدما لمعت الأعين، واتسعت الحدقات، وارتسمت الابتسامات "هي تعدد الزوجات".

ورغم الجمل المذيلة للإجابة، والمتأرجحة بين رفض المبدأ إلا في حالات الضرورة، ودفاعات حول تحريم منع ما حلله الشرع، أو سخريةٍ ممن يخوض تجربة الزواج مرة ويفكر في خوضها ثانية، أو اجتهادات في أن ما كان صالحًا قبل قرون ربما لا يكون كذلك اليوم، إلا أن الكلمة لم تستدع في الأذهان إلا تعدد الزوجات. الخامس قال إن التعددية هي ما نعانيه حاليًّا من انقسامات وشقوقات وانشطارات ناجمة عن رياح التغيير. سيدة واحدة من بين النساء الخمس ربطت بين التعددية وتعدد الزوجات، في حين جاءت الإجابات الأربع المتبقية كالتالي: "الخلافات"، "الفتن"، "الصراعات السياسية والدينية"، "الاختلافات وليس بالضرورة الخلافات".

وإذا أضَفْت أن الكلمة نفسها أثارت التعجب، واستوجبت الاستفسار، واستدعت قدح زناد الفكر، واستشعار قدر من الحرج، وبعيدًا عمن أخطأ ومن أصاب؛ فإن الإجابات تعكس غيابًا لوجود الكلمة في تفاصيل الحياة اليومية. وهو غياب لا يمكن تعليقه على شماعة "العوز الاقتصادي"، أو "الوضع السياسي"، أو حتى سيطرة أخبار رياح الربيع العربي المتأججة. كما لا يجوز إرجاعه إلى مؤامرات غربية، أو فتن صهيونية، أو مخططات إمبريالية، أو اجتماعات سرية لـ"مجلس إدارة العالم"؛ أدت إلى غياب ثقافة التعددية، وتقلص مفاهيم الاختلاف، وتحجر المعاني المتصلة بمن يختلفون عنا شكلاً أو مضمونًا، لكن يتطابقون معنا في الإنسانية.

ونظرة سريعة إلى مرآة الواقع، تشير إلى أننا تقوقعنا وانعزلنا، وانحشرنا جميعًا في فقاعة ظننا إنها العالم، وما إن انفجرت تحت وطأة الواقع، حتى ارتطمنا بأرض بدت لنا وكأنها خطر كبير، وتهديد رهيب. عقود عربية طويلة مرت ونحن محكومون، تارة بقبضة حديدية ساوت بين الأغلبية والأقلية، في القهر والظلم والتجويع، فظنوا إنهم صورة طبق الأصل من بعضهم بعضا. وتارة أخرى بالجثوم على أنفاس الأقلية، حيث معتقدهم مجرم، وطقسهم مؤثم، ولغتهم جناية، وهويتهم جنحة، ورغبتهم في الحفاظ على اختلافهم وتفردهم خيانة لا تُغتفر. وثالثة عبر حديث ظاهره لطيف، باطنه مريع، حول المجتمع أحادي الهوية، متطابق النسيج، مستنسخة جزيئاته من بعضها بعضا، حتى صار الاختلاف سُبَّة، والتعدد وصمة.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد. فحين وجدت أنظمة نفسها في خانة "الْيَك"، لجأت إلى لعبة "الرئيس المؤمن"، و"القائد الحاجّ"، و"الخليفة الموحد"، و"دولة العلم والإيمان" (والإيمان هنا يعني الإيمان بمعتقد بعينه لا ثانيَ له)، و"الحاكم الورع"، و"التقي"، إلى آخر قائمة "فخفخينا"، الدين (دين بعينه)، والدولة (دولة النسيح الواحد).

وعلى الرغم من استيقاظ/استنفار/اصطدام العرب ذات صباح، على صوت ارتطام عنيف، كشف الستار عن مكوناتهم العرقية والدينية والثقافية والاجتماعية، المختلفة والثرية، أصيب بعضهم بصدمة عنيفة، وتجلت آثار الصدمة في إنكار بعضهم لهذا الثراء، وارتعاب بعضهم الآخر من فكرة الاختلاف، وتعلُّق فريق ثالث بتلابيب الخلاف، وغرَقِ مجموعات رابعة في غيهب إِمَّا أنا ومن يتطابق معي، وإِمَّا الجهاد، إلى آخر تفاصيل المشهد الذي يهل علينا تارة عبر نشرات الأخبار، وأخرى بتحليل الخبراء لأوضاعنا، وثالثة بسؤال يوجه لعيِّنة عشوائية "يعني إيه تعددية؟".

وإلى أن تتنور المِخاخ، وتتجلى الأفكار، وتتفتق الأذهان عن كيفية زرع بذرة التعددية في الأفراد، تجدر الإشارة إلى أن المجتمعات الغربية، ليست أفضل منّا حالاً بكثير، ولكن لهذا حديث آخر!

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive